طبيعة الحياة في الأرياف وتحديدا في المناطق الجبلية النائية قاسية جدا، مسالكها وعرة وسكانها في عزلة « ينعمون » في بؤسهم ، وسط غياب شبه منعدم لمؤسسات الدولة، هكذا تجلت ملامح الحياة في المناطق الجبلية وفق ما سطرته أحداث مسرحية « حديث لجبال » للمخرج هادي عباس، تأليف الطاهر رضواني وأداء كل من دليلة مفتاحي وإيمان مماش والأسعد حمدة وحسن رابح ومحمد السعيدي، وهو عمل جديد يدوم 60 دقيقة من إنتاج مركز الفنون الدرامية والركحية بقفصة، ويصنف ضمن خانة المسرح الواقعي.
هذا العمل المسرحي الذي تم تقديم عرضه الأول مساء الأربعاء بقاعة الفن الرابع بالعاصمة، أراده المخرج تكريما من أهل الفن والثقافة للقوات الحاملة للسلاح اعترافا لهم بالمجهودات التي يبذلونها في مقاومة الإرهاب والذود عن الوطن من ناحية، وكذلك لردّ الاعتبار لسكان المناطق الجبلية النائية الذين لم تثنهم التهديدات الإرهابية والهجمات من التشبث بالأرض وتعميرها رغم قساوة تضاريسها، من ناحية أخرى.
تروي المسرحية وفق ما ورد في الورقة التقديمية لهذا العمل، « حكاية شاب ينحدر من منطقة جبلية، حامل لشهادة جامعية في اختصاص الفلسفة، يتعرف على فتاة ويريد الزواج منها غير أن عائق الحصول على عمل يحول دون ذلك، فيلتحق بالجماعات الإرهابية المتمركزة في الجبال، ثم يحاول في ما بعد اختطاف الفتاة، قبل أن تتمكن قوات الجيش من القضاء عليه ».
واختار المخرج أن يكون عمله موجها للجميع ولا يقتصر على النخبة فحسب، كما اختار أن تكون الرسالة الموجهة بصفة مباشرة بعيدا عن الترميز والتشفير، في نقل معاناة الأهالي في المناطق الوعرة، محملا الدولة مسؤولية تقصيرها تجاه هذه الشرائح الاجتماعية التي لم تقتصر معاناتها على الفقر والبطالة والتهميش، ليزيد الإرهاب في تعميق هذه المأساة.
وارتكزت أحداث المسرحية على جملة من المتناقضات على مستوى الخصائص الفنية المميزة لها وعلى مستوى المضمون، ففي ما يتعلق بالشكل، جاءت وقائع الشخصيات متباينة مع أسمائها، فالأم (دليلة مفتاحي) مثلا تدعى « هنية » ولكنها لم تبدُ عليها ملامح الهناء مطلقا طيلة العرض، بل خيّم عليها الحزن والشقاء، وقد صورها المخرج في ثوب امرأة تحمل حزمة الحطب، وهي صورة وفية إلى حدّ كبير لواقع المرأة الريفية الكادحة، والتي قال عنها المخرج في نص المسرحية إنها تعمل في صمت مطبق ولا تطالب بأبسط حقوقها لإيمانها بالعمل كقيمة في الحياة يحقق إنسانيتها.
هذا التباين بين أسماء الشخصيات في المسرحية والأدوار التي لعبتها، يتجلى أيضا في شخصية « ضو » الحامل لشهادة جامعية في اختصاص الفلسفة، فقد كان من المؤمل أن يتحلى هذا الشاب بأفكار مستنيرة، ولكن الحاصل جعله يصبح ظلاميا ويتوقف عن التفكير. والأمر نفسه بالنسبة إلى شخصية « زهرة » التي أدتها الممثلة إيمان مماش.
أما في ما يتصل بالتناقضات التي ارتكزت عليها المسرحية من حيث معانيها، فإنها تجلّت من خلال المقارنة بين الشباب الحامل لشهادة جامعية والشباب غير الحامل لها: فمن المؤمل أن يكون خريج الجامعة قد حصل على عمل، لكن الواقع أن الشباب غير الحامل لشهادة جامعية يعمل والحامل لهذه الشهادة معطّل عن العمل.
ويؤكد المخرج في المسرحية على الدور النضالي الوطني للمرأة، فجعل نهاية الإرهابي تتم على يد حبيبته التي اختارت أن تعشق الوطن وتنحاز إليه بدل مرافقته.
تجدر الإشارة إلى أن لجنتيْ الدعم والشراءات المسرحية بوزارة الشؤون الثقافية، كانت قد اعترضت على اقتناء هذا العمل بعد تقديمه لأول مرة يوم 25 ديسمبر 2016 بمركز الفنون الدرامية والركحية بقفصة، وذلك بحجة « المسّ من هيبة الدولة »، مشترطة على الهيكل المنتج إعادة صياغة النص والشخوص. وفي انتظار أن تدلي برأيها ثانية بعد أن أعادت مشاهدة العرض مساء الأربعاء، أكد عدد من الفنانين الذين واكبوا هذا العمل البارحة في تصريحات لـ (وات) أن مسرحية « حديث لجبال » هي « مرآة الأهالي بالمناطق الجبلية الحدودية الذين تحدّوا قساوة الطبيعة وتهديدات الإرهابيين ولم يتركوا أراضيهم ».