مرت يوم 3 ماي 2017 الذكرى السادسة والعشرين لرحيل موسيقار الاجيال محمد عبد الوهاب …و حتى يتعرف الشباب من الاجيال المتعاقبة على هذا الموسيقار ألكبير ننشر هذا المقال في بوابة الاذاعة التونسية ، استندا الى الكتاب الذي اهداني اياه منذ سنة الاستاذ المنصف شرف الدين وهو كتاب انيق الشكل ثري المحتوى جميل الاخراج نادر الصور ، اصدره بمناسبة الذكرى الرابعة عشر لرحيل موسيقار الاجيال ، وطلب مني بلطفه المعهود ، ان انشر ملخصا عنه في مجلة الاذاعة ، التي كان من بين الذين كتبوا فيها وخاصة في مجالي المسرح والسينما ، ولما اعلمته بأنها توقفت عن الصدور، صمت برهة من الزمن … ثم قال لي هو هدية لك كعربون محبة وتقدير … وهذا الكتاب كان يمكن ان لا يرى النور ، لولا السيد محمد سعيدان رجل الاعمال ، وهو من الذين يؤمنون بأهمية الثقافة وقيمتها في شحذ العقول وتهذيب الذوق والسمو بالفكر ، فتم التمويل ونشر الكتاب … وتحقيق حلم استاذنا الجليل المنصف شرف الدين . وبما ان القراء بصفة عامة يبحثون عن اشياء الخاصة والمثيرة من باب حب الاطلاع في حياة المشاهير ، فأننا ركزنا في هذا المقال على هذا الجانب …
حكايتي مع عبد الوهاب…
يكتب الاستاذ المنصف شرف الدين وفي التوطئة فيقول : في طفولتي لم يكن عبد الوهاب يروق لي ، واذكر في هذا الصدد انني كنت املك في صغري مجموعة من الاسطوانات ، البعض اشتراها الوالد ( رحمه الله ) والبقية اشتريتها انا بحر مالي وأثناء الحرب العالمية الثانية احتلت قوات المحور مسقط راسي سوسة « جوهرة الساحل » وأمطرها الحلفاء بالقنابل فتهدمت ، الى درجة اننا اضطررنا الى مغادرتها والانتقال الى القرى المجاورة التي كانت في مأمن من القنابل فحملت معي كتبي واسطواناتي الى محل سكنيا الجديد في  » خزامة « …و بعد مدة من الزمن وفي حفل زفاف احد الاقارب ، وبينما كانت الفرقة الموسيقية تعزف احدى المقاطع الموسيقية فوجئنا بدخول ضابطين المانيين الى القاعة وأبديا رغبتهما في مشاركتنا فرحتنا وإذا بهما سوريان ( فالجيش الالماني ضم انذاك العديد من المتوعين العرب ) فعزف احد الضباط على العود ادى اغنيتين : انت عزولي  » و » يا مسافر وحدك » ولم يسبق لي وللتونسيين ان عرفهما بسبب العلاقات المقطوعة بين تونس ومصر من جراء الحرب … وقد اعجبت بصوت وأداء ذلك الضابط ومن يومها ازداد عشقي لفن محمد عبد الوهاب
محمد عبد الوهاب  » التونسي ».
فالنسبة لنشاته يقول المؤلف : هو من اسرة اصيلة ابي كبير وهي مدينة صغيرة في محافظة الشرقية تنتسب الى سيدي عبد الوهاب الشعراني الذي كان له مسجد في حي باب الشعرية والشعرية هي قبيلة بربرية من قبائل افريقية وقد انتشروا في شمال القاهرة منذ ثمانية قرون ويسمى حيهم باب الشعرية نسبة الى القبيلة البربرية التونسية … وقد زاول والده وعمه تعليمهما في الازهر الشريف واستقرا في القاهرة لخدمة مسجد جدهما …ولد موسيقار الاجيال واسمه عبد الوهاب محمد ابو عيسى الشعراني …والدته فاطمةحجازي ويسمونها  » ام الحسن  » نسبة الى ابنها الاكبر وهو شقيق لثلاث بنات وطفلين …ويختلف مؤرخو محمد عبدالوهاب حول تاريخ ميلاده الحقيقي ، ففيما ذكرت زوجته نهلة القدسي انه مولود سنة 1900 كما تثبته شهادة ميلاده ، وقد كان جواز سفره الى ححود سنة 1935 يحمل تاريخ ميلاده هذا …ولما فقد عبد الوهاب جواز سفره استخرج جوازا جديدا وسجل فيه كاتب الجوازات انه من مواليد سنة 1910 فاكتسب ذلك التاريخ بصفة رسمية …
ووهبه الله عمرا جديدا…
مرض محمد عبد الوهاب وهو في الثانية من عمره بنزلة برد حادة كادت ان تفقده حياته اذ تغير لون وجهه من الاصفر الى الازرق ، وكانت والدته تتفقده في كل لحظة ، وتتذرع الى الله ان يشفي ولدها ويبقيه على قيد الحياة ، ولما وصل الطبيب وفحصه وكان مساء يوم خميس ، قال لوالده هامسا في اذنه : ان هذا الطفل سيموت بعد ساعات ، ونصحه بان يستخرج له شهادة وفاته ،نظرا لان من يوم الغد جمعة وبالرغم من ان الوالد انصاع لكلام الطبيب واستخرج تلك الشهادة ، الا ان الله كتب للطفل عمر جديد …فسبحان الوهاب وهو على كل شيء قدير …
هكذا كانت البداية …
بدا الحياته الفنية بفرقة « فوزي الجزايرلي » التي كانت تعمل في مسرح  » النادي المصري » بحي سيدنا الحسين ، وكان يمارس نشاطه سرا دون ان يعلم اي احد من عائلته متخذا اسما مستعارا وهو « محمد البغدادي » وتم اكتشاف سره من قبل اخيه وقوبل بالعنف من قبل شقيقه حسن ولكنه ذلك لم يغير شيئا بل زاد في اصراره في المضي قدما في طريقه …
بداية الشهرة …
الانطلاقة الحقيقية لمحمد عبد الوهاب كانت من خلال فرقة المحامي « عبد الرحمان رشدي  » وبفضلها اكتسب الخبرة وتفتحت امامه الافاق ، ثم عمل في فرقة « سيد درويش » وقد اتيحت له الفرصة لينهل من فيض فنه ، اما رحلته الاولى خارج مصر فكانت من خلال فرقة نجيب الريحاني سنة 1922 الى بلاد الشام …
عبد الوهاب واحمد شوقي …
سنة 1924 كانت طالع خير على محمد عبد الوهاب ، فقد استمع اليه امير الشعراء احمد شوقي وهو يؤدي دور »جددي يانفس حظك  » لمحمد عثمان ، في حفل اقامه نادي الموسيقى الشرقي فحاز اعجابه ودعاه الى مكتبه واستقبله احسن استقبال وطلب منه التردد عليه باستمرار في القاهرة …تبنى شوقي محمد عبد الوهاب واعد له غرفة في داره بالجيزة اطلق عليها اسم « عش البلبل  » وغنى له لأول مرة في حفل زفاف ابنه علي شوقي ، وظل عبد الوهاب في رحاب شوقي الى اخر يوم ي حياته وهو مدين له بالشهرة والمجد ، فمن خلال شوقي وعلاقاته الممتدة في المجتمع تعرف محمد عبد الوهاب على اصدقائه من الزعماء والصحافيين والأدباء والشعراء ، حتى امسى لايفارق مجلسا من مجالسهم …
شعراء وأصوات لحن لهم عبد الوهاب …
لحن محمد عبد الوهاب لعديد الشعراء على غرار احمد رامي ومامون الشناوي وبشارة الخوري وكامل الشناوي وعلي محمود طه واحمد شفيق كامل ومرسي عزيز جميل ، ولكن يبقى افضلهم بالنسبة اليه امير الشعراء احمد شوقي …اما الاصوات التي غنت من الحانه فهي : نجاة علي وليلى مراد ورجاءعبده ونجاةالصغيرة وام كلثوم ووردة الجزائرية وفائزة احمد وصباح وشادية وفيروز ، اما الرجال هم : وديع الصافي وسعد عبد الوهاب ومحمد ثروت ، ويبقى ابرزهم عبد الحليم حافظ …
اعجاب بالاغاني التونسية…
وان لم يزر محمد عبد الوهاب تونس ، الا انه كان معجبا بعديد الاغاني التونسية ، مثل اغنية  » العشاقة » لحسيبة رشدي ، وفي باريس تعرف محمد عبدالوهاب على الموسيقار التونسي علي السريتي ( رحمهما الله ) في احد المطاعم التونسية لصاحبه حمودة بصوم ، وقد ادى امامه اغنية  » زعمة يصافي الدهر » ويا شوشانة  » الى جانب بعض التقاسيم التونسية ، فابدى اعجابه بما قدمه الاستاذ علي السريتي ، مع الغلم بان الفنان علي الرياحي زار عبد الوهاب في مصر وادى امامه بعض اغانيه فتفاعل مع انغامها …
عبد الوهاب والفن السابع …
يؤكد المقربون من محمد عبد الوهاب انه لم يفكر قط في ولوج ميدان السينما ، ولكن في احد الايام التقى في منزل صديقه فكري اباضة ، بالمخرج السينمائي محمد كريم الذي طلب من محمد عبد الوهاب امكانية انتاج فيلم ، يضمن له الذيوع والخلود ، فاقتنع عبد الوهاب بالفكرة وكان فيلم  » الوردة البيضاء » هو اول افلامه الغنائية الذي عرض لأول مرة في 4 ديسمبر 1933 وقد تفاعل معه الجمهور، وقد حاصر الجمهور في القاهرة سيارته بعد العرض الاول ورماها بالورود حتى تعطلت حركة المرور، وهناك معجبة سكبت عليها زجاجة عطر من النوع الباريسي باهظ الثمن … وظل التفاعل الجمهورمع الفيلم اينما عرض وحتى في تونس ثم تتالت افلامه لتصل الى سبعة وهي: « دموع الحب » و » يحيا الحب » و » يوم سعيد » و » ممنوع الحب  » و »رصاصة في القلب » و » لست ملاكا  » وكلها من اخراج محمد كريم …
ست الحبايب … وزوجات محمد عبد الوهاب …
ظلت صورة والدة محمد عبد الوهاب  » ست الحبايب » مثلما كان يناديها ، في وجدانه ولم تفارقه حتى بعد وفاتها ، ولما سأله احد الصحافيين عن محبته الجارفة لامه قال : ان اعبد الله وأقدس امي بعده لأنها كانت ملاذي في طفولتي وشبابي ورجولتي …ويوم رحلت احسست اني قد فقدت اعذب الالحان …ويضيف انه اهداها اغنية  » ست الحبايب  » الذائعة الصيت التي مازال تبث الى الان ، لأنها والده تزوج عليها امرأة اخرى مما احزنها كثيرا ، وقد حاول محمد عبد الوهاب اعادة المياه الى مجاريها بين والده ووالدته، فلم يوفق في مهمته…ولكن الابتسامة عادت اليها لما اهداها هذه الاغنية ، وهي من نظم الشاعر حسين السيد ويقول ان لحنها اسهل واصدق لحن ، لان مادته كانت حاضرة في وجدانه …
اما بقية النساء فهن زوجاته زينب الحكيم وهي امرأة ارستقراطية تكبره ب 20 سنة وتزوجها سنة 1931 ، ثم اقبال نصاروتزوجها سنة 1941 وقد وقع طلاقهما بسبب الغيرة عليه من المعجبات كفنان ، ثم نهلة القدسي وهي زوجة سفير الاردن السابق ، وتزوجها سنة 1957 وقد انجب ثلاثة بنات وهن عائشة وعصمت وعفت وابنين هما محمد واحمد … ومن الاشياء المحزنة حقا ان ابنته عائشة و « يدلعها » باسم « اش اش  » قد التحقت بالرفيق الاعلى بعد عشرة ايام من وفاة والدها … رحم الله موسيقار الاجيال الذي ملا الدنيا وشغل الناس وكان بحق نهرا خالدا من الاغاني والألحان والإبداع .

لبوابة اذاعة : عبد الستار النقاطي