تعد المجلة الجزائية التونسية من أعرق النصوص التشريعية الوضعية التي تحدت الزمن والظروف والأجيال المتعاقبة لأكثر من قرن. فهي نتاج أشغال لجنة أحدثت في 6 سبتمبر 1896، آلت إلى صدور مجلة جنائية جديدة عملا بالأمر العلي المؤرخ في أول أكتوبر 1913 ولم تدخل حيز التنفيذ إلا في 1 جانفي 1914.
ولئن تفاعلت المجلة مع تطور المجتمع وتطلعاته وضغوطاته الاجتماعية والإجرامية، وخاصة بفعل عشرات التنقيحات والتعديلات الظرفية التي أدخلت عليها منذ صدورها إلى اليوم، ناهزت الثمانية وخمسين مرة، فإن المواكبة كانت موفقة أحيانا وصعبة أو سلبية أو مستحيلة التطبيق أحيانا أخرى، جراء محدودية انسجام أحكامها وتلاؤمها مع أهداف السياسة الجزائية المتنامية وحاجيات المجتمع المتطورة ومتطلبات نجاعة المنظومة القضائية والإصلاحية. كما أن عديد أحكامها لم تعد تتلاءم مع الدستور الجديد.
وفي هذا الإطار قامت وزارة العدل سنة 2014، ببعث لجنة وطنية لمراجعة المجلة الجزائية تتكون من قضاة مباشرين ومتقاعدين ومن جامعيين ومحامين وإطارات قانونية عليا،
توصلت إلى إعداد مشروع أولي للكتاب الأول من المجلة الجزائية الجديدة، وعرضته مؤخرا للاستشارة أمام عدد من القضاة والجامعيين والمحامين وممثلين عن المنظمات الوطنية والدولية. وهي تعمل حاليا على تنقيح بقية كتب المجلة (الثاني والثالث والرابع).
ولمعرفة أهم ملامح المشروع الجديد للكتاب الأول أجرت وكالة تونس افريقيا للأنباء (وات) حوارا مع نبيل الراشدى المقرر العام للجنة ورئيس خلية بمركز الدراسات القانونية والقضائية.
أحكام المجلة الحالية تتسم بالغموض أو اللبس والصمت والتقارب في معالجة وتسوية عديد القضايا
أوضح نبيل الراشدي أنه بمناسبة مائوية المجلة، التأمت عدة ملتقيات علمية ضمت جامعيين وقضاة ومحامين وباحثين استعرضوا خلالها إيجابيات وهنات المجلة، مشيرا الى أن الأصوات ارتفعت منادية بضرورة إجراء مراجعة جذرية للمجلة، التي قال إنها لم تعد تواكب التحولات الجذرية للمجتمع التونسي ولا تتواءم مع الإلتزامات الدولية التي صادقت عليها تونس لمسايرة نسق تطور القانون الدولي للارتقاء بالإنسان دون أي تمييز، علاوة على صدور دستور الجمهورية الثانية بتاريخ 27 جانفي 2014 وما تضمنه من مبادئ وأحكام ترمي إلى حماية الحقوق الفردية وحقوق الإنسان.
وأفاد بأن اللجنة الوطنية وفرق العمل المنبثقة عنها قامت بسبعين (70) جلسة، واطلعت على 23 ورقة عمل أعدها أعضاء اللجنة تضمنت تصورات حول مراجعة المجلة شكلا ومضمونا والإشكالات القانونية التي اعترت تطبيق بعض أحكامها والمؤسسات القانونية الحديثة المزمع التفكير في ضمها إلى التشريع الجزائي التونسي. كما استمعت اللجنة إلى خبراء مختصين في القانون الجزائي المقارن على غرار الأنظمة الأنقلوسكسونية. ونظمت ندوتين دوليتين مع خبراء من ألمانيا حول المسائل المتصلة بأحكام الكتاب الأول والجرائم الدولية.
وأشار الراشدي إلى أن اللجنة خلصت إلى أن عديد أحكام المجلة الحالية تتسم بالغموض أو اللبس والصمت والتقارب في معالجة وتسوية عديد القضايا، مما جعلها تبتعد عن متطلبات وخصوصيات محيطها العدلي والاجتماعي وبالتالي بروز صعوبات تطبيقية، إلى جانب ارتفاع متصاعد للجريمة بتونس بكل أصنافها وتنوعها وتشعبها وخطورتها وهو ما يعبر عنه الفقه الحديث بالجنح الخطيرة.
اما الباب الثالث فهو متعلق « بالعقوبات »، من خلال التمييز بين العقوبات المنطبقة على الشخص الطبيعي والعقوبات المنطبقة على الشخص المعنوي من جهة، والتفريق بين العقوبات الجنائية وتلك المستوجبة من أجل الجنح مع استبعاد العقوبات السالبة للحرية في المخالفات من جهة أخرى. مع وضع أحكام لأول مرة تخص تفريد العقوبة، بحسب ما أفاد به الراشدي.
وأوضح أن القسم الخاص بالعقوبات عرف ضمن المشروع الأولي للكتاب الأول تحويرا شاملا أملته ضرورة تحديث القانون الجزائي التونسي ليكون متلائما مع المبادئ الدستورية الجديدة، لاسيما احترام حقوق الإنسان والتزامات تونس الدولية التي صادقت عليها ماضيا وبعد ثورة 14 جانفي 2011، مشيرا الى أنه تم تبني أحدث التوجهات التشريعية في خصوص أصناف العقوبات وتطبيق ظروف التخفيف علاوة على تمكين القاضي من آليات متعددة لتفريد العقوبة لتكون متناسبة مع ظروف وسن المتهم والفعل، وأعطيت له صلاحيات هامة عند النطق بالإدانة سواء على مستوى اختيار العقوبة المناسبة أو تمكين المحكوم عليه من الانتفاع ببرامج التأهيل.
فقد أصبح أمام القاضي، وفق المشروع، حزمة من العقوبات الأصلية والبديلة لعقوبة السجن يمكنه النطق بها مع التخلي بالنسبة لعقوبة العمل للمصلحة العامة والتعويض الجزائي عن قائمة الجنح المستثناة، وأصبح المعيار هو أقصى العقاب بالسجن المستوجب للجنحة والمدة المحكوم بها والتي لا يجب أن تفوق العام.
كما يتضمن المشروع علاوة على العقوبات البديلة الواردة بالمجلة الجزائية الحالية، عقوبة بديلة جديدة وهي الخطية اليومية (jour-amende) تتمثل في إلزام المحكوم عليه بآداء مبلغ مالي يقدر بحساب دخله بعد طرح التثقيلات لفائدة خزينة الدولة.
وأفاد مقرر اللجنة بأنه أصبح للقاضي سلطة تقديرية وخيارات واسعة في استبدال عقوبة السجن بعقوبات بديلة عند اختيار المناسب منها، وحُذفت العقوبات المهينة أي القصيرة المدة، بتحديد الأدني المحكوم به نافذا بالسجن بستة أشهر، سعيا إلى إعادة تأهيل السجين داخل الوحدات السجنية ولتفادي الإزدحام داخلها (sur incarcération) .
كما حذفت عقوبة السجن بالنسبة للمخالفات في المشروع الأولي للمجلة الجزائية في انتظار التخلي تدريجيا عن هذه العقوبة المنصوص عليها بالنصوص الخاصة مع إمكانية حذفها نهائيا واستبدالها بالخطية ضمن قانون إصدار المجلة الجديدة.
وتم ادخال عقوبات متابعة ومصاحبة، سعيا إلى تمكين القاضي من الوسائل التي تسمح له بتفريد العقوبة عند النطق بها، حيث التجأت اللجنة إلى إدخال عدّة آليات جديدة معتمدة في بعض القوانين المقارنة تسمح بقضاء العقوبة السالبة للحرية في الفضاءات المفتوحة ولكن تحت رقابة قاضي تنفيذ العقوبات ومكاتب المتابعة والاستصحاب أو تأهيل المحكوم عليه تجنبا للعود من خلال وضعه تحت الاختبار وعدم تركه حراّ طليقا.
كما تم إدراج نظام تأجيل تنفيذ العقوبة الأصلية مع الوضع تحت الاختبار ومع الإبقاء على التأجيل المجرد، وهو نظام يخول مراقبة المحكوم عليه خلال فترة تأجيل التنفيذ، وإدراج نظام الحرية المراقبة بتمكين المحكوم عليه من مغادرة الوحدات السجنية لأسباب صحية أو لتلقي تربصات مع العودة إليه ليلا. وهو ما يعبر عنه بنظام السجون المفتوحة، الى جانب الوضع تحت نظام المراقبة الإلكترونية (السوار الالكتروني) بتمكين المحكوم عليه من مغادرة الوحدات السجنية لأسباب صحية أو لتلقي تربصات مع العودة إليه ليلا.
وفي إطار تكريس منظومة احترام حقوق الانسان التي جاء بها دستور الجمهورية الثانية ونصت عليها الاتفاقيات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية لاسيما منها حقوق المحكوم عليهم، أقرّ المشروع جملة من الأحكام تهدف إلى أنسنة العقوبة بضمان حدّ أدنى من وسائل تأهيل المحكوم عليهم سواء من خلال تخفيف العقوبات على بعض الأصناف من المحكوم عليهم (إفراد الفئة العمرية المتراوحة بين 18 و23 سنة بنظام خاص من العقوبات مع إمكانية وضعها تحت نظام المتابعة القضائية الاجتماعية لتأهيل من زلت بهم القدم) أو تفريد العقوبة وتطوير العقوبة التكميلية المتمثلة في المراقبة الإدارية بوضعهم تحت نظام المتابعة القضائية الاجتماعية لتلقي العلاج.