لبوابة الإذاعة التونسية : عبد الستار النقاطي
احتفلت مدينة الكاف أيام 8و9 ديسمبر 2018 بمرور 60 سنة على وفاة المطربة الكبيرة صليحة التي تعتبر بحق مطربة تونس الأولى ، نظرا لما تركته من رصيد غنائي أثرى خزينة الإذاعة وبقي العديد منه منقوشا في ذاكرة الأجيال المتعاقبة …وكان الاحتفال هذه السنة مناسبة استعدت لها كما يجب المندوبية الجهوية للثقافة بالكاف ، من خلال المعرض الوثائقي الذي أرخ لمسيرة هذه المطربة والحفل الموسيقي الذي شاركت فيه أصوات من الجهة كما خصصت إذاعة الكاف مساحات طوال الاحتفالية احتفت فيها هي أيضا بالمطربة خالدة الذكر… وحتى تتعرف أجيال اليوم على هذه المطربة الكبيرة نسلط الأضواء في « بوابة الإذاعة التونسية » على محطات مضيئة من مسيرة صليحة .
وتبدأ حكاية هذه المطربة » الأسطورة » من لحظة وصول والدها قادما من منطقة سوق هراس بالجزائر للعمل في دشرة نبر بجهة الكاف ، وتزوج من امرأة أصيلة تلك المنطقة وأنجب منها ابنتين صليحة سنة 1914 وشقيقتها سنة 1916 وولدان توفيا …وتشاء الصدف أن ينفصلا الوالدان ، فتختار صليحة العيش مع والدتها ، ومن وقتها بدأت الطفلة الصغيرة ذات العشر سنوات تواجه شظف العيش ، وأمام الخصاصة والفقر وتونس ترزح تحت الاستعمار قررت البنية العمل كخادمة في احد المنازل الفاخرة ، فساقها القدر إلى بيت محمد باي شقيق المنصف باي ، الذي اعتلى عرش البلاد في الأربعينات وبالرغم من قسوة الظروف ومشقة العمل في ذلك البيت الكبير، إلا أن الأجواء الفنية والسهرات الطربية التي كانت تقام به جعلها تتفاعل مع ما سمعت من موشحات وأغان شعبية ، بل وحفظت البعض منها عن ظهر قلب ، مستعينة بما بقي راسخا في ذهنها من الأغاني البدوية التي استمعت إليها في مسقط رأسها « دشرة نبر »
هكذا كانت البداية …
ويروى الصحفي عبد المجيد الساحلي في مقال نشرته » مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية » سنة 1999 أنّ مكتشفها الأوّل هو الباجي السرداحي، الذي كان صاحب تخت موسيقي ويعزف على آلة العود، وقد دلته الصدفة أثناء فسحة بالعاصمة سنة 1940 على صوتها الجميل المنبعث من إحدى السرادقات، وسرعان ما تعرّف إليها وأعجب بما غنّت له فتبنّاها ثم قدمها للفنان محمد التريكي ، الذي أعجب هو أيضا بصوتها واختارها للغناء في فرقته الموسيقية ، فكان الحظ حليفها فقد اختارها لإحياء الحفل الفني على ركح المسرح البلدي بالعاصمة مساء يوم 14 أكتوبر سنة 1938 بمناسبة تأسيس « محطة تونس البريدية » التي أصبحت تعرف في ما بعد بالإذاعة التونسية ، والتي احتفلت يوم 14 اكتوبر 2018 بالذكرى الثمانين لتأسيسها ، وقد كان ذلك الحفل طالع خير عليها فتشاء الصدف ثانية أنّ يحضر حفلها الأوّل المحامي المنصف العقبي، فهنّأها بالنجاح ودعاها صحبة الفرقة إلى حفل عائلي ببيته ، حضره بالخصوص مصطفى صفر شيخ المدينة ورئيس جمعيّة الرشيدية آنذاك، وقد أعجب هو أيضا بصوتها ودعاها إلى الرشيدية للعمل فيها مقابل مرتّب شهري وإقامة مضمونة ، بشرط التخلي عن مكتشفها الأوّل الباجي السرداحي وعن المشاركة في الحفلات الخاصّة والعامّة وهكذا أصبحت صليحة مطربة الرشيدية الأولى، بل مطربة تونس في الأربعينات والخمسينات ، فقد غنّت جلّ أغانيها على تنوّع نغماتها ومقاماتها وموضوعاتها في إطار مدرسة الرشيدية الفنيّة وبعناية كبار المؤلّفين والملحّنين، كما أن الزعيم الحبيب بورقيبة فاجأ الحاضرين في حفل للرشيدية بالمسرح البلدي بعد الاستقلال ، فواكب الحفل وألقى كلمة بالمناسبة .
صليحة والترنان وأجمل الألحان …
ويضيف الكاتب والناقد الصحفي عبد المجيد الساحلي في المقال نفسه أن المطربة صليحة تعاملت مع العديد من كبار الشعراء ،على غرار الهادي العبيدي في أغنية » نني أحلى منام » ومحمد المرزوقي في أغنية » غزالي نفر » ومصطفى خريف في أغنية » شرع الحب » واحمد خير الدين في أغنية » ياخائنة » ، وأكد الساحلي أن شيخ الأدباء العربي الكبادي وتقديرا لصليحة وصوتها الصداح ألف أغنية » أم الحسن غنات » وهي المرة الأولى في حياته التي كتب فيها بالعامية التونسية ، وتجدر الإشارة إلى أن المطربة صليحة وبالرغم من مستواها التعليمي الضعيف إلا أنها تمكنت من غناء مجموعة من القصائد بالفصحى مثل : « هجر الحبيب وما درى » و »عش بالوصال » أما قصب السبق في الحان الكلمات المذكورة فقد فاز به الشيخ خميس الترنان ، الذي يبقى هو أيضا علامة بارزة في تاريخ الموسيقى التونسية إبداعا وإمتاعا وإشعاعا ، دون أن نغفل عن ذكر الملحنين صالح المهدي ومحمد التريكي وقدور الصرارفي .
المسرح البلدي شهد البداية والنهاية …
ومثلما شهد المسرح البلدي أول حفلاتها سنة 1938 ، بمناسبة تأسيس الإذاعة التونسية فقد شهد أيضا آخر حفل لها ، وكان ذلك في منتصف شهر نوفمبر سنة 1958 ، مثلما ذكر عبد المجيد الساحلي في مقاله ، وقد حضر ذلك الحفل جمهورا غفيرا غصت به القاعة وجوانبها ، وقد أمتعت الحاضرين بباقة من أغانيها ، بالرغم مما ظهر عليها من إرهاق ، وكانت أخر أغنية أدتها » مريض فاني » ، وبعد ذلك الحفل نقلت إلى المستشفى ، وبعد أيام قليلة توفيت المطربة الكبيرة صليحة وقد خرجت من بيت ابنتها » شبيلة راشد » وسار وراء جنازتها الآلاف وكان يوما أشبه بالحداد الوطني .
آثارها تدل عليها …
وتقديرا لدورها الفعال في الارتقاء بالأغنية التونسية ،أطلقت بلدية العاصمة اسمها على احد شوارعها كما أصدر البريد التونسي طابعا بريديا حمل صورتها ، وكانت وزارة الثقافة قد أطلقت اسمها على مهرجان انتظمت دورته الأولى في نوفمبر سنة 1959 بمناسبة الذكرى الأولى لوفاتها ، واحتفلت بماويتها سنة 2015 .
تكريم من نوع مختلف …
وما يحسب لهذه المطربة الكبيرة أيضا هو أن أغانيها استهوت العديد من المطربات والمطربين العرب فأعادوا غناءها ونذكر منهم بالخصوص : وردة الجزائرية التي أدت أغنية » فراق غزالي » في إحدى حفلاتها بمهرجان قرطاج ، كما أعادت المطربة هيام يونس أغنية » مع العزابة » وأصدرتها في شريط غنائي ، وأعادت ماجدة الرومي أغنية » أه يا خليلة » في حفل تعاونية الإذاعة والتلفزة التونسية الذي انتظم سنة 2015 بمناسبة عيد الاستقلال ، ولم يتخلف عن هذه الكوكبة الفنان الإماراتي حسين الجسمي فقد أدى الأغنية نفسها في مهرجان قرطاج ستة 2010 … أما الإذاعة التونسية التي غنت في أول حفل لها بمناسبة تأسيسها ، فقد أصدرت لها سنة 2009 باقة من أجمل أغانيها، كما قامت مصلحة الرقمنة والتكنولوجيا برقمنة جل أغانيها الموجودة بالمكتبة السمعية للإذاعة التونسية .