لبوابة الإذاعة التونسية : عبد الستار النقاطي
تصادف هذه السنة الذكرى التاسعة والعشرين لرحيل المطربة العربية الكبيرة علية التونسية التي فجع الجمهور التونسي ، صباح يوم 19 مارس 1990 بخبر وفاتها المفاجأ وقد بكاها الكثير لان العديد من أغانيها بقيت راسخة في البال ، وخاصة أغنية « بني وطني » التي أدتها خصيصا بعد معركة الجلاء في 15 أكتوبر 1963 ، وهي مازالت تبث إلى اليوم وتجد التفاعل نفسه ، نظرا لما في كلماتها الحماسية ولحنها المعبر، كما أن شهرة المطربة علية لم تقتصر على تونس فقط ، بل انتشر اسمها من المحيط إلى الخليج وخاصة بعد أدت أغنية « حبايب مصر » اثر ملحمة النصر الكبيرة للجيش المصري والعبور لتحرير منطقة سيناء من الجيش الإسرائيلي يوم 6 اكتوبر1973 ، كما اشتهرت بأغنية « علي جرى » وهي من الحان حلمي بكر ، وقد رددها في ما بعد العديد من المطربين العرب على غرار هاني شاكر في تسجيل خاص ، وكذلك أصالة نصري وصابر الرباعي كما كانت السيدة علية خير سفيرة لتونس في القاهرة ،وقد مدت يد المساعدة لكل من قصدها ، واخص بالذكر الفنان كمال رؤوف النقاطي والإذاعي صالح جغام والشاعر رضا الخويني وغيرهم …وبمناسبة ذكرى وفاتها ننشر في « بوابة الإذاعة التونسية » هذا المقال حتى تتعرف الأجيال الجديدة أكثر على قصة هذه المطربة الكبيرة الموهوبة ، التي أخلصت لفنها فأحبها الناس وخلدها التاريخ …
ولدت علية يوم 4 نوفمبر 1936 بتونس العاصمة وبالتحديد بمنزل في نهج الزاوية البكرية بالعاصمة ولها من الإخوة: سميرة ورفيع وتحية وغصن… ترعرعت في بيت عمها السيد عبد المجيد الرحال الذي كان موظفا بمعهد « باستور » وليس له أبناء فتبناها ورعاها كابنته ولما بلغت سن التعليم ألحقها بمدرسة حمام الأنف، وبالمصادفة درست مع شقيقة سيدة المسرح التونسي منى نور الدين، وقد عرفت علية بصوتها الرخيم بين أقرانها وكلفتها مدرستها آنذاك بتدريب التلميذات على أداء الأناشيد المدرسية.
من بية الرحال إلى فتاة المنار…
وفي مقال كتبه الكتب الصحفي الطاهر المليجي ونشرته « مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية » سنة 2007 في ركن « أعلام الموسيقى والغناء » قال : بعد زواج عازف الكمان القدير رضا القلعي من سميرة الابنة البكر للمسرحي البشير الرحال ، التي لحن لها « من جوارح قلبه » أغنية بعنوان : « يا سميرة القلب يا غالي » وأداها المطرب الهادي المقراني وبعد سنوات عديدة « سميرة يا سميرتنا » وأداها الهادي القلال ، وبما انه « ولى ولد الدار « استمع صدفة رضا القلعي صدفة للبنت الصغير علية وهي تغني في البيت ،فشده جمال صوتها وبحسه الفني المرهف تأكد من أنها فتاة موهوبة وسيكون لها شانا في المستقبل فقرر الاعتناء بها، وقد كان عمرها 13 سنة فلحن لها أغنية « ظلموني حبايبي ظلموني »وهي من كلمات بلحسن العبدلي ، كانت الإشكالية كيف ستسجل الأغنية ووالداها ليس لهما علم بذلك ، فأطلق رضا القلعي عليها الاسم المستعار (فتاة المنار) نسبه إلى (فرقة المنار) التي يرأسها ، املا في أن تكون في يوم من الأيام مطربة من مطربات الفرقة … سجلت الأغنية سنة 1949 في « أستوديو » الإذاعة التونسية بمقرها القديم (ساحة العملة حاليا) وما أن أذيعت أغنية (ظلموني) حتى كانت المفاجأة، إذ نجحت نجاحا منقطع النظير وأصبحت الأغنية تغنى من طرف المطربين في الحفلات العامة والخاصة دون أن يعرفوا أنها من أداء لفتاة ذات 13 سنة.وكان لابد أن يعرفوا الحقيقة ذات يوم، وجاء ذلك اليوم حيث سعد والدها ، وغضبت والدتها فطردتها من البيت فالتجأت إلى دار عمها من جديد وبقيت هناك حتى زواجها.
علية المنعرج الحاسم …
وفي حوار أجريته لعازف القانون القدير حسن الغربي ( والد السباحة الماهرة سندة الغربي ) ونشرته مجلة » الإذاعة والتلفزة » في افريل 1990 قال :أول حفل لعلية كان في الفرقة البلدية بقيادة صالح المهدي ، لما تغيبت المطربة فتحية خيري عن حفل للفرقة بالمسرح البلدي بالعاصمة ، عوضتها المطربة صليحة والمطرب الهادي الجويني ، وبعد أن انتهيا من الحفل ، اقترحت على الأستاذ صالح المهدي وكان من اعز أصدقائي أن يلحق الفنانة الصاعدة علية بالفرقة البلدية ، فقبل ذلك وأرسل لها عبد الستار بن عيسى (عازف الفيولنسان) الذي كان يعرفها جيدا ، فتقدمت صحبة زوجها الأول المختار فرزة وهو رجل تعليم ، وأدت أمامه أغنية « برهوم حاكيني » للمطربة نجاح سلام، ومنذ ذلك التاريخ اعتنى بها الموسيقار صالح المهدي وأطلق عليها اسم » علية » تيمنا بأخت هارون الرشيد « علية » التي كانت أديبة وفنانة، وبعد مجموعة من » البروفات » ظهرت في أول حفل لها مع الفرقة البلدية باسم علية ، ونجح الحفل وكنت ضمن الفرقة كعازف على آلة القانون ،وقد شاهدت تفاعل الجمهور كثيرا معها ، ولكن الفرقة البلدية توقفت عن النشاط سنة 1957 لعدة أسباب… وأضاف وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ صالح المهدي لحن لها أغنيتين « أين أيامي الوديعة » لشاعر الشباب محمود بورقيبة، وأغنية « نظرة من عينيك تسحرني » للأديب الشاعر احمد خير الدين.
علية والفترة الذهبية …
ويضيف العازف حسن الغربي في الحوار نفسه : بعد أن توقفت الفرقة البلدية ، وبتشجيع من السيد مصطفى بوشوشة كونت فرقة موسيقية جديدة أطلقت عليها اسم « فرقة العصر » حتى تكون صالحة لكل عصر ، وقد ساعدني في ذلك صديقي العازف الطاهر البليري ، وفي البداية قدمت بعض السهرات للإذاعة التونسية مع المطربة حسيبة رشدي ، ونظرا للمظهر اللائق لعناصر الفرقة وانضباط عازفيها ، كثرت عليها الطلبات ، ففكرت في إدماج المطربة علية للفرقة ، واشترطت عليها برنامجا غنائيا أحضرته للغرض وتمثل في أغاني أم كلثوم بعدما كنت أسجل كل ليلة أربعاء الحفل الذي تبثه الإذاعة الوطنية لهذه المطربة ، وقد ازدادت قناعاتي بصوتها القوي لما أدت أمامي أغنية « يا ظالمني « لكوكب الشرق ، وقد أبهرتني أيضا بحفظها الجيد والسريع لأغانيها ، وقد وجدت وإياها يد المساعدة من زوجها الثاني المختار العنابي الذي بادر بشراء جهاز تسجيل لهذا الغرض ، وتوالت الأغاني والحفلات وعرفت علية شهرة لا مثيل لها، حتى أن الجمهور كان يتنقل معنا إلى الأماكن التي نحيي فيها حفلات فرقة العصر .
من تونس إلى القاهرة …
أما عن سر انقطاعها عن فرقة العصر لحسن الغربي وقرارها السفر إلى القاهرة فقد قال الكاتب الصحفي الطاهر المليجي في مقاله : تم تنظيم حفل خاص للفنانة علية في اللقاء الشهري الذي كانت تقدمه الرشيدية، واستدعى الموسيقار صالح المهدي بالمناسبة عدة شخصيات منها الفنان المصري احمد شفيق أبو عوف (رئيس اللجنة العليا للموسيقى العربية) بالقاهرة والمطرب الشعبي الكبير محمد عبد المطلب، وشيخ مدينة تونس العاصمة السيد الشاذلي حيدر، وقد أبدعت علية عندما أدت من الحان صالح المهدي أغنية »نظرة من عينيك تسحرني » كما لم تبدع مطربة قبلها ، فعرض عليها الفنان احمد شفيق أبو عوف القدوم إلى القاهرة، وهو في انتظارها… ولما سافرت علية إلى القاهرة ، وجدته في المطار في انتظارها فأقام على شرفها حفلا بمعهد الموسيقى العربية ، بقيادة المايسترو عبد الحليم نويرة واستطاعت أن تلفت انتباه الفنانين ورجال الإعلام وتصبح محط عنايتهم واقتناعهم عند أدائها لدور الموسيقار داود حسني « يا طالع السعد افرح لي » فتم قبولها ضمن فرقة الموسيقى العربية ثم تركت الفرقة ، وغنت بمفردها ضمن العديد من الفرق ، وبهذه الطريقة كونت علية رصيدا كبيرا من الأغاني لكبار الملحنين واشهرها » دامعة عيني دامعة » الحان بليغ حمدي… »طرح الهوى » الحان محمد الموجي … »علّي جرى »… الحان حلمي بكر… و »غالي والله غالي » الحان عزالدين حسني شقيق المطربة نجاة الصغيرة والممثلة سعاد حسني) وخاصة أغنية « حبايب مصر » التي بفضلها وسمها رئيس الجمهورية مصر العربية الراحل محمد أنور السادات.
علية والمسرح …
شاركت علية في بدايتها الفنية في مسرحية (احدب الكنيسة) لرائعة الكاتب الفرنسي الكبير « فيكتور هيقو » حيث تقمصت شخصية (اسمرا لدا) وقام والدها الممثل الكبير البشير الرحال بالتمثيل إلى جانبها، أما الممثل المتميز محمد الهادي فقد قام بدور الأحدب كما شاركت علية في فيلم غنائي قصير عنوانه (حب وغيرة) لعمار الخليفي مع مطرب الخضراء علي الرياحي حيث غنى أغنيته الشهيرة « لا شفتك مرة ولا ريتك » ونعمة أدت في الفيلم أغنية « التليفون » وكان نجم الكوميديا الراحل الهادي السملالي همزة الوصل بين المطربين الثلاثة ومثلت علية أيضا في الفيلم السينمائي (أم عباس) بطولة الزهرة فايزة تأليف الأديب الكبير محمد المرزوقي وإخراج علي عبد الوهاب. وعرض الفيلم لأول مرة يوم 24 جانفي 1970 بقاعة « البلماريوم » بتونس العاصمة وقامت علية بدور الفتاة الشابة التي أحبها عباس (الحطاب الذيب) … أما في مصر فقد مثلت علية في فيلم » دنيا المزيكا » مع المطرب محمد نوح والممثلة صفاء أبو السعود سنة 1976، والفيلم من إخراج محمود فريد.
رصيد فني كبير…
يعتبر رصيد المطربة الكبيرة الراحلة علية بالثراء الذي تفخر به الساحة الموسيقية فقد تركت في خزينة الإذاعة ( 216 أغنية) ومن اشهر أغانيها أغنية » بني وطني » وهي من كلمات الشاعر عبد المجيد بن جدو والحان الشاذلي أنور ، وهذه الأغنية كانت بطلب من الزعيم الحبيب بورقيبة ، وقد سجلت بسرعة في الإذاعة الوطنية ردا على » معركة بنزرت الشهيرة الخالدة والتي سقط فيها ألاف الشهداء ، وكانت بإمضاء عبد المجيد بن جدو في الكلمات والشاذلي أنور في الألحان ، وقد صرح بعدها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة قائلا : لوكالة » أوبرا موندي » عام 1967 أنه لم يبك طيلة حياته سوى مرتين ، واحدة بمنفاه في جزيرة جالطة وأخرى وهو يستمع إلى رائعة علية « بني وطني » كما تحدث عنها أيضا عن علية في عدة خطاباته .
أخر ظهور لعلية التونسية …
آخر ظهور للمطربة علية كان يوم 18 فيفري سنة 1989 ، كضيف شرف بمناسبة اختتام سهرة مهرجان الأغنية التونسية بالمسرح البلدي بالعاصمة ، أما آخر مصافحة لها فكانت في صائفة السنة نفسها ، حيث فاجأت زميلتها وصديقتها السيدة نعمه في حفلها على ركح المسرح الأثري بقرطاج ، وقد تعانقتا طويلا ، ووقف الجمهور ليلتها ليصفق طويلا لتلك اللقطة بين المطربتين العملاقتين ، وبعد وفاة المطربة علية وفي مكالمة هاتفية جمعتني بالسيدة نعمة قالت لي : كان ذلك آخر لقاء بيننا ، فلكل منا مشاغله وحياته الخاصة ، وقد تأكدت أنها بتلك المفاجأة على ركح قرطاج وأمام ذلك الجمهور العريض ، وكأنها جاءت لتودعني وتودع جمهورها الوداع الأخير .