لبوابة الإذاعة التونسية : عبد الستار النقاطي
قضى المبدع الكبير المختار حشيشة أكثر من 27 سنة بين أحضان دار الإذاعة التونسية التي عشقها حتى النخاع ، وتحديدا من سنة 1955 إلى سنة 1983 دون انقطاع ، ويجدر التذكير بان سي المختار حشيشة من مواليد مدينة صفاقس يوم 10 أوت 1920 ، زاول تعليمه الابتدائي والثانوي بعاصمة الجنوب إلى أن أحرز على شهادة الكفاءة البيداغوجية ومارس مهنة التدريس بالمحرص ثم بصفاقس وتونس … وقبل التدريس تعاطى عدة مهن حرة منها صناعة الحلي أي (المصوغ ) التي تلقاها عن أحد المصريين الذين هاجروا إلى بلادنا كما تعاطى مهنة الطباعة…
وللوفاء والذكرى وحتى يتعرف شباب اليوم على ذلك الجيل المؤسس للدراما الإذاعية التونسية نسلط في هذا المقال الأضواء على هذا الفرد بصيغة الجمع وعلى ما تركه من آثار خالدة طوال مسيرته في الإذاعة وفي المسرح والسينما و والشعر والغناء .
كان التحدي الأول في حياته أن ينتقل من صفاقس مسقط رأسه ، إلى العاصمة التي تزخر بالأنشطة الثقافية وكان مقتنعا ، بأن المكانة المرموقة والمنزلة المأثورة لا تكون إلا للأكفاء ممن أوتوا الموهبة والحس المرهف والقدرة على الخلق والإضافة ، خاصة وقد اكتسحت الإذاعة وسحرها الأثيري مكانا واسعا في كيانه وفي المجتمع ، وازداد اقتناعا بهذا القرار بعد أن تعرضت مسيرته المسرحية إلى مصاعب ومشاكل مختلفة ، أولها ابتعاده عن المسرح الذي كان يعشقه عشقا كبيرا ، وذلك جراء تشكيك بعض المسرحيين من صفاقس ونعته بالفاشل في أول مسرحية كتبها وقدمها لجمعية « الكوكب التمثيلي » … فهجر المسرح وتفرغ نهائيا لمهنة التعليم التي مارسها في عدة مدارس في كل من صفاقس والمحرص وتونس .
صدفة خير من ألف ميعاد …
وقد لعبت الصدفة والجرأة دورا هاما في حياة هذا المبدع الكبير ، فقد حدث ذات مرة أن دار بينه وبين صاحب مكتبة حديث تلقائي حول البرامج الإذاعية ، سرعان ما تحول إلى نقاش حاد وكان السيد التيجاني زليلة المسؤول بالإذاعة التونسية موجودا وقتها بالمكتبة واستمع إلى أراء المربي المختار حشيشة ، فأعجب بتحاليله ونقده الجريء للبرامج الإذاعية ، ووجه له في البداية دعوة للالتحاق بالإذاعة ، حيث نجح في التجربة الصوتية وكانت انطلاقته بقراءة النصوص الأدبية ، إلى أن استمع إليه الأستاذ الشاذلي القليبي مدير الإذاعة التونسية سنة 1956 ، فأعجب بصوته واقترح عليه الالتحاق نهائيا بالإذاعة ، والطريف في الأمر انه ظل يحتفظ بالرسالة التي وصلته من إدارة الإذاعة التونسية للانضمام إلى مصلحة التمثيل ، وشكل ذلك التفرغ النهائي للإنتاج الإذاعي تحديا ثانيا للمختار حشيشة ليتحول من مستمع ناقد للبرامج الإذاعية إلى منتج فاعل لها .
المنعرج الحاسم …
وفي حوار أجراه له الصحفي عبد المجيد الساحلي ونشر على أعمدة مجلة الإذاعة والتلفزة التونسية …… قال المختار حشيشة أول برنامج قدمته كان بعنوان « كيف ترى النهاية » واهتم بالقصة القصيرة مع قراءة سليمة للنصوص ، وهي القاعدة الأساسية للتعاطي مع البرامج الإذاعية وقد كان ذلك البرنامج يوفر تواصلا طريفا بينه وبين المستمع ، من خلال إشراكه في اختيار نهاية القصة ، ويمكن القول أن تلك الحصة كانت بمثابة القطرة الأولى لتنهمر بعدها البرامج حتى أنها فاقت عدد أيام الأسبوع ، فقد كان المرحوم المختار حشيشة دائم الحضور على موجات الأثير من الصباح إلى المساء ، وللأمانة فقد كانت برامجه تتسم بالواقعية الاجتماعية ومواكبة العصر ، ولعله كان يجد لذة في خدمة المستمعين ، خاصة وان الإذاعة الوطنية بعد الاستقلال كانت تلعب دورا جبار في توعية المواطنين وفي صقل مواهبهم لمن أوتوا موهبة في هذا المجال أو ذاك ، بطرق متعددة ومبسطة يفهمها المتلقي ومن بين هذه البرامج نذكر » أمام المرآة « … » ما نخبيش عليك » … « ما بين الخيمة والعين » … »هواة الأدب » الذي بدأه مع الأديب الكبير مصطفى خريف … » وين كنا وين صبحنا « … « سيدي حاضر يا شكاية « … » قالت شهرزاد « … »لكل سؤال جواب … » قافلة تسير » وغيرها…
التحدي الأكبر …
أما التحدي الثالث في حياته فكان تكليفه من قبل إدارة الإذاعة الوطنية بترؤس مصلحة التمثيل والمنوعات لسنوات طويلة ، وقد عرفت في عهده حركية كبيرة وإنتاجا غزيرا ، إذ تحول « أستوديو 7 » إلى خلية نحل حيث بلغت انتاجاته أكثر من 30 عملا في الشهر فهذه فرقة تسجل وأخرى تتدرب على عمل جديد وأخرى تنتظر الانطلاق في عمل ثالث، ومن بين انتاجاته للفرقة نذكر (صندوق عجب) و(المسرح الصغير) و(أمام المرآة) و(ما نخبيش عليك) و(مقامات الشيخ عليّة) و(شريكي سلومة) و(من وراء الخيال) و(ياسلاك الواحلين ) و(قالت شهرزاد ) .
الرسالة النبيلة…
وفي الحوار ذاته لمجلة « الإذاعة والتلفزة » تحدث المختار حشيشة عن سر نجاحه قائلا : ولدت علاقتي بالتمثيل في سن الرابعة عشر فقد انضممت إلى فرقة « النجم التمثيلي » وانتقلت في صلبها من أداء الأدوار الثانوية إلى أداء الأدوار الرئيسية في مسرحيات عديدة اذكر منها « السلطان عبد العزيز « …المائدة الخضراء »… »القضية المشهورة … »الممثل كين » …كما منحتني الفرقة فرصة الإخراج لبعض المسرحيات وبعد ذلك وبمعية ثلة من الزملاء كوننا فرقة « النهضة التمثيلية » وقد تواصلت علاقتي بالمسرح إلى أن بلغت 22 سنة من العمر… وعن سر نجاحه في الأعمال التي قدمها قال : كانت ردة فعل وتحد للذين شككوا في بدياتي كممثل وسخروا من أول إنتاج قدمته ، كما أني برهنت للمسؤولين الذين وضعوا ثقتهم في على أني قادر على تقديم الإضافة ، من خلال انتاجات تثقف المستمعين وتوعيهم وترفه عنهم ، وقد وفقني الله في مهمتي شاكرا كل من عمل معي وآمن بالرسالة النبيلة التي قدمتها للمتلقي وللوطن .
مبدع بصيغة الجمع …
والى جانب الإنتاج والإشراف على مصلحة التمثيل والمنوعات ، فقد تقمص العديد من الأدوار البطولية والثانوية ، في المسرح والسينما والإذاعة والتلفزة ، أشهرها دوره في سلسلة « محكمة وبعد » من إخراج الهادي السملالي ، ومن كثرة الأحكام القاصية التي كان يصدرها ظنه بعض المشاهدين انه يقوم بمهنته الأصلية أي القائم بالحق الشخصي للدولة ، دون أن ننسى مسرحية « الطرش حكمة » مع دلندة عبدو وإتقانه لشخصية الأصم » سي التهامي »… ولم يقتصر إنتاجه للإذاعة والمسرح والسينما ، بل تعداه إلى كتابة الأغاني في الأنماط العاطفية والوطنية والاجتماعية ، وعلى سبيل الذكر لا الحصر نذكر أغنية « عرقوب الخير عروستنا » لعلية ، كما غنى له علي الرياحي ونعمة وسلاف وزهيرة سالم واحمد حمزة ويوسف التميمي وغيرهم … كما ساهم كمنتج في تأسيس الإذاعة الجهوية بصفاقس مع مديرها الأول عبد العزيز عشيش … أما في السينما التونسية فقد كتب سيناريو وحوار العديد من الأفلام التونسية ، ومثل فيها أيضا على غرار « الفجر »… « الفلاقة »… « صراخ »… « فردة ولقات أختها »…
آثاره تدل عليه …
ومن الطرائف أن الفنان الكوميدي الساخر الهادي السملالي داعبه ذات مرة وعلى الملا في حفل غنائي قائلا : (نسلموا مفاتح الإذاعة لسي المختار حشيشة ونرتاحو) في إشارة منه لتواجده باستمرار في مكتبه ولعمله الدؤوب وانتاجاته الغزيرة ومواهبه المتعددة .
وبعد رحلة طويلة ومتنوعة في الإذاعة والتلفزة والسينما تمثيلا وإنتاجا وإخراجا ، وبعد معاناة مع المرض الذي ألم به ، لبى المختار حشيشة دعوة ربه وكان ذلك يوم السبت 17 سبتمبر 1983 عيد الأضحى … وبما أن المبدعون يرحلون ويتركون آثارهم ، ها أن التلفزة التونسية تعيد البعض من حين لآخر بعض أعماله ونخص بالذكر مسرحية « الطرش حكمة » .