لبوابة الاذاعة التونسية : عبد الستار النقاطي
يعتبر الشاذلي زوكار واحدا من « أساطين » الصحافة والإذاعة والشعر، بدأ حياته عاشقا للصحافة وسط طريق مليء بالأشواك ولكن محبته الجارفة لصاحبة « الجلالة » وإخلاصه لها جعلها تعبد له الطريق، ليأخذ منعرجا حاسما في هذه الحياة… من نساج إلى صحفي فمدرس فدبلوماسي بالصدفة، توصلت « رحلة السعادة » « لسعادة السفير » فتنقل بفضل هذا العمل المرموق إلى عواصم عربية عديدة، والتقى بكبار الشخصيات في عالم السياسة، والأدب والثقافة والإعلام… وكان شاهدا على العصر بما في الكلمة من معنى فقد عايش أحداثا سياسية عديدة، ومع ذلك فان « سعادة السفير » لم يتخل عن عشقه الأول للصحافة والإذاعة والشعر… فكان يحمل أثناء رحلاته حقيبته الدبلوماسية في يمينه، وحقيبة الصحفية والأدبية في يساره حتى لقب « بالشاعر السفير »…
وبمناسبة الذكرى الحادية عشر لوفاته ننشر هذا المقال في بوابة الإذاعة التونسية حتى يتعرف شباب اليوم عن الجيل المؤسس للإذاعة بالأمس .
ولد الشاذلي زوكار بمدينة المنستير في 26 فيفري 1931 في أسرة محافظة شديدة التعلق بالتقاليد العربية الإسلامية. وكان والده الشيخ أحمد زوكار مؤدب الحيّ يصحبه معه بنفسه إلى كتابه ومسك لوحته. وحفظ سور القرآن الكريم عن ظهر قلب ، ثم انتقل إلى المدرسة العربية الفرنسية ليزاول بها دراسته الابتدائيّة وبسبب الحرب العالمية الثانية انقطع عن الدراسة ولم يبق أمامه إلا أن يقضي وقته بين تعلّم حرفة النسيج في دكان صديق والده ومطالعة ما يجده أمامه من كتب ونشريات واثر نهاية الحرب التحق الشاذلي بالفرع الزيتوني بالمنستير في أوائل سنة 1947، ثم تحول إلى العاصمة ليواصل دراسته في جامع الزيتونة ويجلس إلى كبار مدرّسيه ويسجّل في الآن نفسه بالمدرسة الخلدونية، التي كانت تدرّس اللغات الأجنبية والعلوم الصحيحة وتنظّم دوريا منابر حوار ومحاضرات وندوات في مختلف القضايا الوطنية والعربية وفي شؤون الدّين والفكر والأدب.
بين الدارسة والنضال …
ولم يقتصر نشاطه في العاصمة على الدراسة وحدها ، بل اندمج في الحركة الوطنية وانضم إلى جمعية صوت الطالب الزيتوني التي كانت فصيلا فعّالا في الصراع مع السلطة الاستعمارية الفرنسية. وصار أحد عناصرها البارزة. وواصل الشاذلي زوكار هذا النشاط المزدوج: الدراسة من جهة ومناصرة الكفاح التحريري في تونس وخارجها من جهة ثانية، حتى أحرز سنة 1954 شهادة التحصيل أي ما يعادل شهادة » البكالوريا « .
من تونس الى القاهرة …
وكان حلمه مواصلة دراسته في مصر ، فلم يتردد في حزم أمتعته والتوجه إلى القاهرة فحّل بها سنة 1954 وخيّل إليه في هذه الفترة أنه يعيش حلما جميلا، وهو يدرس بجامعة القاهرة ويتفاعل مع حيوية المناخ الثوري السائد في محيطها.وبعد أربع سنوات من الدراسة الجامعية، أحرز الشاذلي زوكار الإجازة في اللّغة والآداب العربية وكان في أثناء إقامته بالقاهرة قد طوّر تجربته الإبداعية ووسّع أفقها وطعّمها بأفكار جديدة ونهل مباشرة من معين الأدب العربي وروّاده في مصر وانبهر انبهارا شديدا بشخصية طه حسين، كما كان قد انّبهر من قبل في تونس بشخصية الفاضل ابن عاشور وكان يرى في هذين العالمين البارزين رمزين شامخين من رموز المجد، إذ يمثلان عنده أنموذج الوفاء لجوهر الحضارة العربية الإسلامية والأخذ في الوقت ذاته بلبّ الثقافة الغربية وآدابها ومناهجها العلمية.
بداية المسيرة الإذاعية …
رغم انبهاره بالمناخ الثقافي والسياسي المفعم بالحيوية والتغيير في مدينة القاهرة بمصر، إلا أن الشاذلي زوكار خير العودة إلى تونس وكان يمني النفس للالتحاق بالإذاعة الوطنية التونسية وعن كيفية دخوله إليها قال في آخر حديث أجريته له قبل وفاته ( جويلية 2008) من حسن الصدف أن مدير الإذاعة آنذاك كان الأستاذ الشاذلي القليبي الذي عرفته عندما كنا نلتقي في مجلة » الندوة » حيث كان ينشر فيها مقالاته ، وقد كان يكن لي التقدير والاحترام فعبرت له عن رغبتي في الالتحاق بالإذاعة ، فلم يمانع ولكنه أكد لي أن العمل كمتعاون خارجي ، فبدأت رحلتي مع الإذاعة سنة 1958 فألحقني بالفريق الإذاعي وقد تعرفت وقتها على الأستاذين التجاني زليلة وعبد العزيز عشيش وكنا مجموعة من العناصر عملنا بحماس وبجهد وإخلاص فكانت البداية في قسم البرمجة وكنت أقدم بعض البرامج في الوقت نفسه وأول برنامج كان بعنوان » بريد المستمعين » الذي كان يرد على أسئلة المستمعين ويجيب عن استفساراتهم ومن بين فقرات هذا البرنامج « من أدب المستمعين » وكانت تلك الفقرة اللبنة الأولى لبرنامج « هواة الأدب » ثم مع » الأدباء الناشئين » الذي كان ينتجه الأديب والشاعر الكبير سيدي مصطفى خريف ثم الأستاذ احمد اللغماني ، ثم تواصل مع رائد الأدب المقارن الدكتور المنجي الشملي … و يضيف : ثم خضت غمار الإنتاج الإذاعي فأنتجت عديد البرامج اذكر منها « ملتقى الإذاعات » و »من كل بستان زهرة » كما قدمت لفترة قصيرة برنامج » صوت الجزائر » تعويضا للمذيع عيسى المسعودي وكان قسم البرمجة يضم كل من المذيع منير شماء والمخرج المصري عبد الرحيم الرفاعي والمخرج المسرحي كمال بركات ، حيث كنا أسرة واحدة وثرية رغم قلة عددها ومن التونسيين عبد العزيز الرياحي ومحمد بكار والمختار حشيشة وتوفيق حشيشة.
سعادة السفير …
وكان طموحه إلى العمل في المجال الديبلوماسيّ الذي دخله بالصدفة وفي هذا السياق يقول في الحوار نفسه : هذا صحيح فقد تقدمت سنة 1958 بعد تخرجي من الجامعة بمطلب إلى السيد وزير التربية آنذاك الأستاذ محمود المسعدي (رحمه الله) لكي يعينني في احد المعاهد الثانوية لاني تقدمت بمطلب التعيين متأخرا، ووافق على مطلبي وعينني مشكورا في احد المعاهد ببنزرت واكتشفت أن الصديق الشاعر نورالدين صمود عين هو أيضا في المعهد نفسه ولكن الصدفة وحدها لعبت دورها لتغيير وجهة حياتي من مدرس إلى دبلوماسي، فقد التقيت بالأستاذ الحبيب الشطي سفير تونس ببيروت وبغداد آنذاك أمام » مقهى باريس » بالعاصمة وقد كانت تربطني به علاقة وطيدة قديمة، فعبر لي عن إعجابه بما اكتب في الصحف وما أنتجه في الإذاعة الوطنية من برامج ، ثم اقترح علي أن اعمل معه بسفارتنا ببيروت أو بغداد ،فتركت التعليم والتحقت ببيروت كملحق صحفي في القسم الثقافي حيث عوضت الزميل عمر الفزاني ، ولما أعلمت الأستاذ الشاذلي القليبي بذلك طلب مني أن أكون مراسلا للإذاعة الوطنية التونسية ، من بيروت والشرق الأوسط فقبلت ذلك ، ومن سوء الصدف أن لبنان وقتها كان على فوهة بركان أيام الصراع بين كميل شمعون والطوائف الأخرى، وقد عشت ذيول هذه الحرب الأهلية وشاهدت الرصاص يتطاير فوق رؤوسنا ودماء الضحايا تسيل على إسفلت الشوارع، ومررت بكثير من المأزق والحوادث الخطيرة آنذاك .
السفير الإذاعي…
كان للأستاذ الشاذلي زوكار محبة جارفة للعمل الإذاعي فلم ينقطع عنه حتى بعد أن أصبح سفيرا وعن هذه الفترة يقول : نعم هذا صحيح فعندما كنت سفيرا في اليمن كنت احمل حقيبتين حقيبة دبلوماسية وحقيبة أدبية والحقيبة الثالثة فيها » الميكروفون » وكنت اعد برنامجي « رحلة في عالم الفن والفكر » من صنعاء بطلب من مدير الإذاعة الوطنية آنذاك الأستاذ رياض المرزوقي، وان نسيت فلن انسى المراسلة التي قمت بها لفائدة الإذاعة من بيروت عندما كنت ملحقا إعلاميا بسفارتنا هناك ، وقد ألقيت كلمة تونس بمناسبة الذكرى الثانية للاستقلال (20 مارس 1958) من أستوديو سيارة إذاعية متنقلة، أهداها الأسطول السادس الأمريكي إلى إذاعة لبنان بعد نهاية الصراع الداخلي وقد عبر لي الأستاذ اسعد الأسعد مدير الأنباء عن إعجابه بمعاني تلك الكلمة التي تعرف بتونس وتبرز الاعتزاز بالوطن والافتخار بالحرية والثناء على مناصرة الشعب اللبناني الشقيق.
زخارف عربية …
وإجابة عن سؤال حول البعد العربي في برنامج » زخارف عربية » الذي ظل ينتجه بالإذاعة الوطنية التونسية إلى أخر أيام حياته قال : ملاحظتك في محلها ، فانا اكتب فقرات هذا البرنامج مستندا إلى عدة مراجع عربية حيث كنت في رحلاتي كدبلوماسي وغيرها، أسجل الأحاديث لأساطين الأدب والفكر العربي ومكتبتي الخاصة تزخر والحمد لله بدرر نادرة في هذا المجال، وقد أذعت جزءا من هذه الأحاديث الهامة لعمالقة الفكر العربي من خلال برنامجي « رحلة في عالم الفكر والفن » ومن بين هؤلاء إحسان عبد القدوس، مصطفى محمود، عباس محمود العقاد، عيون القصائد لأكبر شعراء العربية كما اختار من حين إلى أخر لشعرائنا ما هو رائع ومن الطريف أن جريدة يمنية كتبت عن برنامجي وقالت: إن الشاذلي زوكار يعرف بالشعر والأدب اليمني، أكثر مما نعرف به نحن في بلدنا ، مع العلم باني أعطي المساحة نفسها في البرنامج للشعراء العرب دون أن انسي إبداعات شعرائنا وأدبائنا في تونس، حتى يكون برنامج » زخارف لوحة فسيفسائية » متناسقة الألوان ونافذة مفتوحة يجد فيها المستمع العربي ما يفيده ويرضي ذوقه.
للعشق للوطن …
و الجدير بالذكر ان الشاذلي زوكار اقتحم ميدان الكتابة وقول الشعر في وقت مبكر وكان هذا النشاط الفكري هوايته المفضلة، دون أن ينقطع عنه تماما ، أمّا الأغراض التي تناولها في نصوصه النثرية والشعرية فقد شملت ما يمكن أن نطلق عليه الوجدانيات وهو ما كتبه في الحب والصداقة والطبيعة والرثاء، وما عبّر عنه من تأملات وذكريات ورسائل للعديد من أصدقائه الأدباء والشعراء ، كما شملت كتاباته أيضا النقد الأدبي والشأن السياسي والاجتماعي والتراث الحضاري العربي الإسلامي، وانشغل في جانب مهّم من قصائده بقضية الاحتلال المسلط على تونس ، وكامل منطقة المغرب العربي واغتصاب أرض فلسطين وهي كتابات وأشعار ترجمت وطنية الشاذلي زوكار وإيمانه بعروبته وقد جمع طائفة مختارة من أشعاره في ديوانه » للعشق، الوطن » الذي صدر سنة 1997 وقد تجاوز وقتها السادسة والستين من عمره … وهو ما يدّل على أنه لم يكن يولي أهمية تذكر لجمع قصائده ونشرها وكان يحرص على بظهورها في الجرائد والمجلات وبثها عبر الإذاعات، ليستمع إليها الناس ، أضف إلى ذلك أنه كان شاعرا مقلاّ إلى حدّ أنه يبقى أحيانا نحو ثلاث سنوات دون أن يكتب ولو قصيدة واحدة، كما يؤكدّ ذلك حسين العوري لما اهتم بمسيرته وخاصة إحصاءه لمجمل أشعار الفقيد، كما أكد الباحث نفسه أن الفقيد الشاذلي زوكار كان إنتاجه الأدبي مركزا على النثر خاصة وعلى تدفق مقالاته وبثّ برامجه الإذاعية أسبوعيا، دون أن يقتطع ما يلزم من الوقت لكتابة أي كتاب، أو لجمع مقالاته الغزيرة في مؤلف أو أكثر. ولا يمكن أن نغفل عن دوره الريادي في التجديد وفي خوضه منذ خمسينات القرن الماضي تجربة ما يسمى بالشعر الحر. وكان فضلا عن ذلك مؤسّسا لرابطة القلم الجديد، مع ثلة من الأدباء التونسيين والمغاربة، جاعلا شعار هذه الرابطة: نريد أدبا تريده الحياة.
وداعا عاشق الإذاعة …
يوم 4 ديسمبر 2008 غادرنا الاستاد الشاذلي زوكار بعد رحلة طويلة ومتنوعة بدأها بالصحافة المكتوبة واختتمها بالإذاعة الوطنية التونسية التي ظل وفيا لها منذ أن دخلها متعاونا خارجيا سنة 1958 ولم ينقطع عنها حتى وهو يشغل خطة سفير . وأمل أن يحرص أبناءه على جمع مقالاته الغزيرة وينشرها في كتاب تخليدا لوالده وما تركه من آثار شعرية وأدبية خالدة .