تعيش تونس بداية من يوم غد 8 مارس، وعلى مدى أربعة أيام، على وقع الدورة الثالثة والعشرين لمهرجان الأغنية التونسية التي تقام تحت عنوان « تونس تغني ». ولطالما كانت الموسيقى ولاتزال جزء من الهوية الثقافية المعبرة عن أصالة الشعوب. ولم تخرج الموسيقى التونسية عن هذه القاعدة، إذ واكبت مختلف الحضارات التي مرت على البلاد منذ العصور القديمة. وشهدت الموسيقى التونسية تطورا ملحوظا، خصوصا منذ الفترة الأندلسية في القرنين الخامس عشر والسابع عشر، حيث باتت تعبيرا عن التجربة الاجتماعية والتراكم الإبداعي المتفرد.
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين، تعزز حضور الموسيقى كعامل أساسي في تشكيل الثقافة الوطنية، حيث برزت مدارس موسيقية متنوعة ساهمت في إرساء معالم الأغنية التونسية بألحانها وكلماتها التي تجمع بين الأصالة والانفتاح على الإيقاعات الموسيقية المعاصرة.
في ظل هذا التنوع الموسيقي والإبداعي، برزت الحاجة إلى مهرجان يجمع الفنانين والفاعلين في هذا المجال، ويكون فرصة لتطوير الأغنية التونسية وتعزيز إشعاعها. من هنا، جاءت فكرة تأسيس مهرجان الأغنية التونسية سنة 1987، حيث استند المؤسسون وأبرزهم الفنان فتحي زغندة وحمادي بن عثمان وعبد الكريم صحابو، إلى تجارب سابقة شكلت نواته الأولى من بينها مهرجان صليحة في الستينات وسهرات قرطاج بداية من 1973 ومهرجان علي الرياحي الذي تأسس سنة 1979. كما ساهمت نوادي « الشبيبة الموسيقية » التي تأسست سنة 1972 في تكوين أجيال جديدة من الفنانين، فيما جاء « أسبوع الموسيقى التونسية » سنة 1986 ليكون فضاء لدعم النخبة الموسيقية من ملحنين وشعراء وفنانين.
// شخصيات فنية بارزة أدارت المهرجان
ومنذ انطلاق مهرجان الأغنية التونسية، أشرف على إدارته شخصيات موسيقية بارزة أسهمت في تطويره، حيث كان الموسيقي الكبير فتحي زغندة أول مدير للمهرجان، وقد أشرف عليه من دورته الأولى سنة 1987 حتى الدورة الثامنة سنة 1994، باستثناء دورة 1992 التي أدارها خليل محفوظ.
وتداولت بعد ذلك أعلام موسيقية عديدة على مهمة إدارة المهرجان على غرار الموسيقار الفنان أحمد عاشور (الدورة التاسعة – 1996) ومحمد بوذينة (الدورة الحادية عشرة – 1999) ورياض المرزوقي (الدورة الثانية عشرة – 2000) وعبد الكريم صحابو (الدورة الثالثة عشرة – 2001) وحمادي بن عثمان (الدورة الرابعة عشرة – 2002) وسنيا مبارك التي أشرفت على إدارة التظاهرة من الدورة السادسة عشرة (2005) إلى الدورة التاسعة عشرة (2008).
ومنذ 2008 غاب المهرجان لمدة 12 سنة قبل أن يعود من جديد سنة 2021 بإدارة الفنان شكري بوزيان (في الدورة العشرين)، وهي الدورة التي أعادت الحياة للمهرجان واستقطبت أسماء كبرى مثل عدنان الشواشي والشاذلي الحاجي ولطفي بوشناق وصابر الرباعي وسنيا مبارك ومحمد الجبالي ونبيهة كراولي وغيرهم.
وبعد توقف المهرجان من جديد سنة 2022، عاد في السنة الموالية (2023) للانتظام وقد شهدت فترة إعداد الدورة الحادية والعشرين إشكاليات، إذ استقالت الفنانة نبيهة كراولي من إدارتها قبل فترة وجيزة ليتم تكليف محمد الهادي الجويني مدير عام مسرح الأوبرا بمدينة الثقافة، آنذاك، بالإشراف عليها.
أما الدورة الثانية والعشرون التي انتظمت سنة 2024 فقد تزامنت مع عدوان الاحتلال الصهيوني على قطاع غزة، لذلك جاء برنامج هذه الدورة التي أشرفت على إدارتها المديرة العامة لمركز الموسيقى العربية والمتوسطية « النجمة الزهراء » سلوى حفيظ، داعما لثقافة المقاومة، ورافعا لشعار الالتزام بقضية الشعب الفلسطيني.
ويسعى مهرجان الأغنية التونسية في دورته الثالثة والعشرين التي ستقام من 8 إلى 11 مارس 2025 بإدارة الفنان الطاهر القيزاني، إلى تطوير تجارب السابقين والحفاظ على الخصوصية وإرث الأجداد منفتحا على التجارب الشابة والمتفردة في جمالياتها وبحثها الموسيقي، بحسب تأكيد المنظمين.
// زغندة يستعرض ذكريات التأسيس ويقترح بدائل للتطوير
في تصريح لوكالة تونس إفريقيا للأنباء حول مهرجان الأغنية التونسية، استعرض الأستاذ فتحي زغندة نشأة هذا المهرجان والتحديات التي واجهها منذ تأسيسه سنة 1987، كما قدم رؤية نقدية حول واقعه اليوم وسبل تطوير هذه التظاهرة.
وبالعودة إلى ذكريات التأسيس، بين فتحي زغندة أنه اقترح والفريق الذي عمل معه فكرة إقامة تظاهرة وطنية تعنى بالأغنية التونسية، بدعم من وزير الثقافة آنذاك الفقيد البشير بن سلامة. ورغم غياب الميزانية، تمكن الفريق من تنظيم الدورة الأولى بإمكانيات محدودة وجهود تطوعية، وهو ما اعتبره زغندة « إنجازا كبيرا » آنذاك.
وأكد أن المهرجان استقطب منذ بداياته نخبة من رموز الموسيقى التونسية مثل المايسترو الفقيد عبد الحميد بنعلجية وعازف العود الفقيد علي السريتي والفنان الفقيد أحمد حمزة، وكان المهرجان محطة مهمة لدعم الأغنية التونسية.
رغم النجاح الفني والجماهيري الذي شهدته الدورة الأولى، فإن هذا النجاح انعكس سلبا في بعض الجوانب، وفق زغندة، حيث تعرض المهرجان لانتقادات إعلامية واسعة، بعضها كان نقدا بنّاءً، في حين رأى زغندة أن بعضها الآخر كان « بدافع تصفية الحسابات أو البحث عن مواضيع للجدل. » وأضاف أن النجاح أحيانا قد يتحول إلى عبء، إذ أن بعض الأقلام الصحفية لم تسعَ إلى دعم المهرجان، بل ركزت على البحث عن الثغرات ونقاط الضعف.
ومن أبرز الإشكاليات التي تحدث عنها زغندة هو غياب الترويج الكافي للأعمال الفائزة، مما أدى إلى اندثار معظمها وعدم تحقيقها للانتشار المرجو. وأوضح أن وسائل الإعلام العمومية، مثل الإذاعة والتلفزة الوطنية، لم تكن تواكب الأعمال الفائزة بطريقة تضمن وصولها إلى الجمهور، وهو ما انعكس سلبا على تأثير المهرجان في الساحة الموسيقية وفق تقديره، حيث أكد أن « نجاح أي مهرجان لا يقتصر على تنظيمه فقط، بل يجب أن تكون هناك استراتيجية واضحة لمرافقة الأعمال الفائزة وترويجها وضمان انتشارها ».