لبوابة الإذاعة التونسية : عبد الستار النقاطي
فقدت الساحة الثقافية أمس الثلاثاء 11 جانفي 2022 الشاعر التونسي الكبير نورالدين صمود عن سن 90 وقد توفي في منزله بمدينة قليبية .ويعد الراحل من ابرز الشعراء التونسيين ، كما باشر التدريس في المعاهد الثانوية وفي الجامعة التونسية.وسيوارى جثمانه الطاهر الثرى اليوم الاربعاء12 جانفي 2022 في مسقط رأسه .
نشأ نورالدين صمود المعروف » بشاعر الفراشات » في محيط يتشح بالجمال والخيال، وأخذت براعم القريحة الشعرية تنمو في سن مبكرة لتزهر فيما بعد وتثمر لتعطينا ذلك الشعر الرقيق المنساب من كف الشمس، في رحلتنا بين قصائده نستنشق عبق الريف ونسائم البحر، فتبدو الصورة الشعرية الخلاّبة التي تطير فيها الفراشات كاللحن في شفة الطيور، ولد نورالدين صمود في عام 1932 في تونس الخضراء، درس بالزيتونة إلى أن حصل على الثانوية العامة، ثم واصل تعليمه العالي في جامعة القاهرة حيث حصل على الإجازة في الآداب من الجامعة اللبنانية عام 1959، وعلى دكتوراه الدولة من الجامعة التونسية 1991، كما باشر صمود التدريس في مدارس التعليم الثانوي، ثم في كليتي الشريعة وأصول الدين بالجامعة التونسية، والمعهد العالي للموسيقى، وقد ظهرت ميولاته الشعرية منذ سنوات الصبا الأولى، ثم ترسخت لديه بالإطلاع على عيون الشعر العربي.
وحتى يتعرف جيل اليوم من الشباب أكثر على احد رواد الشعر التونسي الحديث ننشر لكم في » بوابة الإذاعة التونسية » أهم ماء جاء في الحوار الذي أجراه معه الصحفي والشاعر الحبيب الأسود ونشر في كتاب » ثمانون من أعلام ومشاهير الإذاعة التونسية » حيث قال عن بداياته: ترعرعت في عائلة جدي الذي كان يحفظ القرآن وعلى منواله نسج والدي، وفي عائلة أخوالي، ولي فيها خالان يحفظان ويكتبان كثيرا من الشعر الشعبي الذي ندعوه في تونس » الشعر الملحون « كذلك، حسب تسمية ابن خلدون له في مقدمته. وفي هذا الجو العائلي حفظت القرآن الكريم مثل أبي وجدي، وتعلقت بالشعر العربي ، مثل خاليّ اللذين كانا يقولانه فنحفظه عنهما ونردده يوميا، لأن كثيرا منه كان يقال في حوادث يومية تجري في العائلة، أو مع العمال في الضيعة التي كانت تقيم فيها العائلة مع بداية الربيع إلى أن يجمع » المحصول « في أوائل الصيف، أما الخريف والشتاء فنقضيهما مع العائلة في مدينة قليبية، وفي هذا المثلث: المدينة والشاطئ والضيعة قضيت طفولتي فعرفت البحر عن كثب وخبرت أنواع الأسماك وألوانها وأسماءها، كما أجدت السباحة في اليمّ منذ نعومة أظفاري قبل أن أجيد السباحة في بحور الخليل، وتعلمت صيد السمك عن جدي الذي كان من هواته كما كان من هواة صيد الحجل والسمان، فعرفت في تلك الأجواء أنواع الطيور وأسماءها وألوانها، وأصبحت أميز بينها بمجرد سماع أصواتها أو رؤيتها تطير في السماء، فأعرف المقيم الذي لا يغادر البلاد منها والمسافر الذي يعود إلينا في مواسم معينة، ثم يرحل عندما ينتهي الموسم. وتعلمت من عائلة أخوالي صيد الطيور الجارحة وخاصة النوع الذي نسميه» الساف « والصيد به بعد ترويضه وتدريبه، والساف تسمية فصيحة لنوع من الطيور الجوارح ورد ذكره في المعاجم وفي بعض الشعر الأندلسي.
من الملحون إلى الفصيح …
في مسقط رأسي تعلمت عن المرحومين الشيخ حميدة قارة ثم الشيخ النوري الزمرلي، مبادئ العربية، ولتقريب الأسلوب العربي الصميم منا، طالبنا أولهما بحفظ مقاطع شعرية أعجبتني موسيقاها ومعانيها، فانصرفت عن حب» الشعر الملحون « إلى حب الشعر الفصيح، وعندما انتقلت إلى تونس العاصمة للدراسة بـ» الزيتونة« حفظت نماذج من الشعر القديم ومعظم المعلقات السبع بل العشر، لكني لم أتفاعل إلا مع بعضها مثل معلقات عمرو بن كلثوم وطرفة بن العبد والأعشى الأكبر، ثم تعرفت إلى شعراء المهجر الشمالي مثل إيليا أبو ماضي وجبران وسائر رفاقهما من مؤسسي » الرابطة القلمية « ثم تعرفت إلى شعراء المهجر الجنوبي وبعض شعراء الحركة التّجديدية في الشرق العربي وخاصة شعراء » أبولو « ومن خلالها إلى بعض أشعار أبي القاسم الشابي الذي لم يطبع ديوانه » أغاني الحياة « إلا سنة 1955 بعد وفاته بأكثر من ربع قرن. وفي تونس رأيت من بعيد بعض الشعراء الكبار مثل أمير الشعراء في تونس محمد الشاذلي خزنه دار، ينشد شعرا في الذكرى الثانية لتأسيس » جامعة الدول العربية « عن الملك الشهيد محمد المنصف باي الذي خلعه الاستعمار، ورأيت الشاعر الكبير مصطفى خريف إبان إصداره ديوانه الأول « الشعاع « سنة 1949 وكنت أشاهد الشعراء الشيخ محمد بوشربية يدرس في» الزيتونة« ومحمود بورقيبة في مقر الإذاعة القديم، ومعه عبد المجيد بن جدو الذي لم يكن في ذلك الوقت مشهورا بكتابة الشعر الفصيح وإنما ببعض الأغاني باللهجة الشعبية، وكنت أرى كذلك أحمد خير الدين في إدارة مشيخة جامع الزيتونة، والطاهر القصار الذي كان يدرس في » الزيتونة« مادة اختيارية هي العروض، ومحمد الهادي المدني الذي كان يعمل في القضاء، وجلال الدين النقاش الذي كان يعمل في الأوقاف، وقد قدمني إليه ذات يوم الشاعر الصديق عبد العزيز قاسم، فلما سمع اسمي قال لي: لقد سمعت شعرك في الإذاعة، ثم جاملني باستحسانه في ذلك الوقت المبكر، وكل هؤلاء من كبار الشعراء، ظهر شعر معظمهم في كتاب الأدب التونسي في القرن الرابع عشر الهجري لزين العابدين السنوسي، صاحب جريدة » العالم الأدبي « التي نشرت أشعار ومقالات أدباء أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات، كما تعرفت آنذاك إلى نخبة من الشعراء الشباب مثل الراحلين: منور صمادح الملقب بشاعر الثورة، وجمال الدين حمدي الذي يسميه بعضهم بودلير تونس، وتعرفت كذلك إلى إبراهيم شبوح الذي اختطفه الجانب العلمي وعالم المخطوطات حتى أصبح حاليا أمينا عاما لمكتبة آل البيت بالمملكة الأردنية الهاشمية، وقد قام بتحقيق » كتاب التعريف بابن خلدون« والجزء الأول من المقدمة بمناسبة مرور ست مائة سنة على وفاته في عام 2005، وتعرفت أيضا إلى الشاعر الشاذلي زوكار الذي كان يشرف على صفحة ثقافية بإحدى الجرائد في أيام الدراسة واشتغل في السلك الدبلوماسي حتى صار سفيرا لتونس في اليمن في أواسط الثمانينيات ليلقب بالشاعر السفير، وبوساطته تعرفت إلى الشاعر الملتزم بقضايا العروبة علي شلفوح، والشاعر الرومنسي محيي الدين خريف، الذي كان ينهج نهج عمه الشاعر مصطفى خريف المعروف بأنه من أصدقاء ومعاصريه الشابي وابن جهته في الجنوب التونسي.
وعن إقامته في القاهرة وعلاقاته بنخبها، وكيف كان تأثيرها في تجربته الإبداعية والإنسانية قال الأستاذ نورالدين صمود :
كان سفري إلى القاهرة في منتصف الشهر التاسع من السنة الميلادية 1955، قبل استقلال تونس في 20 مارس 1956. وكنت أرى في شوارع القاهرة من أعلام الأدب مثل توفيق الحكيم ومحمود بيرم التونسي، وكان يظهر معهما شخص قيل لي إنه محمد عوض محمد مترجم» فاوست« للشاعر الألماني « غوته » إلى العربية، وكان يجالسنا أحيانا حسين بن أحمد شوقي، في مقهى من مقاهي شارع سليمان باشا سابقا وطلعت حرب حاليا، وهو شاعر عرف بقصيدة واحدة غناها له الموسيقار محمد عبد الوهاب في أحد أفلامه، وهي:
سهرت منه الليالي ما للغرام ومالي
إن صدّ عني حبيبي فلست عنه بِسَالٍ
وقد شك بعضهم في صحة نسبتها إليه، زاعمين أنه انتحلها لنفسه من شعر والده أحمد شوقي فقد بدت لهم مثل بيضة الديك كما يقال، ولكن الشاعر صالح جودت أكد أن له شعرًا غيرها، وقد نشر له مجموعة من شعره أيام كان رئيسًا لتحرير مجلة » الهلال« ويُصدر معها ملحقًا باسم » الزهور«، ففند بما نشره من شعره فيها شكوك من ظنوا أنه سطا على قصيدة من أوائل شعر والده.
وفي ذلك الجو القاهري كنت أرى أحيانًا في » مقهى الأمريكيين« بناصية شارع سليمان باشا، من جهة شارع 26 يوليو الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي يتناقش مع صلاح عبد الصبور بصوت عال يسمع من بعيد و قد تجمع حولهما بعض المهتمين بالأدب والشعر من الشباب.
بين الشعر و الجامعة …
ويواصل الشاعر والإذاعي نورالدين صمود حديثه فيقول: أضيف إلى ما سلف، أنني درست العروض وموسيقى الشعر في » المعهد العالي للموسيقى« لمدة عشرة أعوام، إذ لا يمكن أن يلّحن الملحن شعرًا إذا لم يكن عارفًا بأوزان الشعر وموسيقاه، وبذلك يتسنى له نطقه نطقًا سليمًا فلا يمد حرفًا غير ممدود، ولا يقصر حرفًا ممدودًا وهكذا، كما أنني توليت تدريس العروض في دورتين متتاليتين انعقدتا في » بيت الشعر« بتونس برعاية » مؤسسة عبد العزيز البابطين للشعراء العرب المعاصرين« وقد لاحظت إقبال الكثير من محبي الشعر كبارًا وصغارًا من الجنسين على معرفة العروض وأوزان الشعر.
أما البحث العلمي فيتطلب تقرير الأشياء بالحجج والبراهين والاعتماد على المراجع والمصادر، وهذا ما أنتهجه عندما أكتب بحثًا منهجيًا أو أقدم محاضرة علمية، وإذا رأيت أن أخالف مصدرًا أو مرجعًا في رأي من الآراء أعملت الفكر وقدمت الحجج والقرائن العقلية، أما عندما أكون بصدد كتابة قصيدة فأضع نصب عيني قول القدماء: » أعذب الشعر أكذبه«، وأتذكر أن لابن قتيبة قولاً في مقدمة كتابه» الشعر والشعراء«:» الشعر نكد بابه الشر، فإذا دخل في الخير ضعف «.
دخل الإذاعة يوم عيد ميلاده ومدين لها بشهرته …
وبما انه يعد من أبرز الأدباء الفاعلين في القطاع الإعلامي المسموع، وحول ما إذا الإذاعة كانت ساعدته على تأكيد حضورك ورواج شعره قال :
من حسن حظي أني عُرِفْتُ شاعرًا عن طريق الإذاعة قبل أن أُعْرَفُ عن طريق النشر، فقد كنت أرسل قصائدي إلى الإذاعة منذ سنة 1951 و 1952 فتُقرأُ بالنيابة عني، بعد أن يراقبها الشاعر الكبير محمود بورقيبة، وأذكر أني زرت الإذاعة ذات يوم في مقرها القديم، مع الصديق الخطاط المرحوم محمد جميل بن رجب لمقابلة منتج برنامج الأدباء الهواة محيى الدين مراد في أثناء تسجيله يوم 06/07/ 1952 بالتحديد وما كنت احفظه لو لم يكن يوم ذكرى عيد ميلادي فأدخلني إلى الأستوديو وطلب مني قراءة قصيدتي بصوتي، ومنذ ذلك اليوم صرت أقرأ قصائدي بصوتي في ذلك البرنامج مع بعض المعروفين قبلي بكتابة الشعر مثل محمد المرزوقي وعبد العزيز قاسم، وهكذا أصبح لي اسم مشهور في عالم الشعر قبل أن أنشر شيئًا من كتاباتي على رغم صداقتي للشاذلي زوكار الذي كان يشرف على صفحة أدبية بجريدة » الأسبوع« لصاحبها نور الدين بن محمود الذي كان بدوره يكتب الشعر الجديد، وهذا من حين حظي ولعله تخطيط مني، لأن تلك البدايات الشعرية لو نُشِرَتْ لندمت على نشر معظمها، مثلما ندم أبو القاسم الشابي على نشر كثير من قصائده الأولى، كما صرح بذلك إلى صديقه محمد الحليوي في إحدى رسائله التي أعلمه فيها بأنه منصرف إلى جمع ديوانه قبيل وفاته بقليل، وأذكر أنني عندما زرت الشاعر اللبناني الكبير بولس سلامة في بيته ببيروت، وأطلعته على كراس به بعض قصائدي أبدى إعجابه بها كتابيًا، وأوصاني شفويًا بعدم تعجل النشر لكيلا أندم على نشر بعضها عند النضج، وقال لي إنه يتمنى أن يمحو اسمه من تحت بعض ما تعجل بنشره، والحقيقة أني لم أعرف له من الشعر إلا الجيد الممتاز، ومازلت أحتفظ ببعض رسائله التي قد أنشرها في مناسبة أخرى.
الكوفة صاحبة الفضل علي …
ويختتم الشاعر نورالدين صمود حديثه بالقول : أما شهرتي وتأكيد حضوري الشعرى فقد أثبته منذ مشاركتي في مهرجان الشعر العربي بالعراق الشقيق وبالضبط في الكوفة في أوائل سنة 1965. ثم توالت مشاركاتي في المهرجانات وفي مناسبات كثيرة شرقًا و غربًا مثل المغرب الأقصى وسوريا ومعهد العالم العربي بباريس، أما في مجال المحاضرات فقد حاضرت في العديد من الأقطار العربية من الدوحة وجدة شرقًا، إلى سلا وفاس ومكناس غربًا، وما بينهما.
البرامج الإذاعية التي أنتجها…
سحرته الإذاعة من يوم أن دخلها لتسجيل إحدى قصائده بصوته في برنامج « الأدباء الهواة » مثلما ورد في هذا المقال ، ثم انظم إليها منتجا منذ السبعينات ومن أهم البرامج التي أنتجها نذكر : » أعلام تونسيون »… و »مغني ومعني » مع صديقه ورفيقه الإذاعي القدير الراحل بوراوي بن عبد العزيز.
وقد نشرت له مجلة الإذاعة العديد من قصائده ومقالاته ، كما كتب الراحل العديد من الأغاني وسجلت في « استوديو 8″ بالإذاعة التونسية نذكر منها : حبيبتي زنجية أداء علي الرياحي … و »صلوا على خير الورى » أداء السيدة نعمة .
أهم الجوائز التي تحص عليها…
نال هذا الشاعر القادم من الزمن الجميل والحامل لقيم نبيلة ولرؤى فكرية متجددة عددا من الجوائز نذكر من بينها : جائزة الجامعة اللبنانية 1959، ولجنة التنسيق بالقيروان 1967، وجائزة الدولة التقديرية 1970، وجائزة أحسن نشيد وطني تلفزيوني 1976، وجائزة بلدية تونس 1977، وجائزة وزارة الشؤون الثقافية 1982، و جائزة أحسن نشيد لعيد الشباب 1990، وصولا إلى تكريمه بمهرجان الشارقة للشعر العربي سنة 2019 .
إصداراته الشعرية
وقد أصدر نورالدين صمود عددا من المجاميع الشعرية من بينها:
رحلة في العبير 1969 …صمود (أغنيات عربية) 1980 … نور على نور 1986
ومن أشعاره للأطفال: طيور وزهور 1979 … حديقة الحيوان1991
وبمناسبة السنة الوطنية للكتاب سنة 2003 أصدرت ستة مجاميع شعرية منها » غنيت للوطن« قصائد عن تونس و» المغارب« عن دول المغرب العربي الخمس، و» المشارق« عن دول المشرق العربي و» إفريقيا وأوروبا« إلى جانب مجموعة كتب نثرية منها » دراسات في نقد الشعر « و» جمال اللغة العربية « وكتابين في علم العروض، الأول صدر في طبعتين والثاني في 31 طبعة.
كما صدر له عدد من المؤلفات منها: دراسات في نقد الشعر– زخارف عربية – الطبري ومباحثه اللغوية – هزل وجد – تأثير القرآن في شعر المخضرمين .