في يوم 5 جانفي من سنة 2008، انتفض شباب مدينة الرديف (إحدى مدن الحوض المنجمي بجهة قفصة)، رافعين مطالب اجتماعية تهمّ التشغيل والتنمية واستمرّت هذه التحرّكات السلمية لمدّة 6 أشهر، وجوبهت بالعنف البوليسي والاعتقالات والمحاكمات الجائرة للشباب والنقابيين والناشطين الحقوقيين وفرض حصار على المدينة.
هذه الانتفاضة وثّقها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شريط وثائقي بعنوان « الحوض المنجمي: قضية وطن » من إخراج نضال العازم، وإنتاج ماهر عبد الرحمان، وهو عمل مدّته 90 دقيقة، تمّ من خلاله استعراض شهادات لمجموعة من الأهالي والحقوقيين والمحامين والناشطين في المجتمع المدني والنقابيين، بالإضافة إلى عرض صور وفيديوهات وثّق فيها أصحابها لعمليات المداهمات الأمنية والاعتقالات والتدخّل الأمني الوحشي لقمع المتظاهرين السلميين.
وتمّ تقديم العرض الأوّل لهذا الفيلم، مساء اليوم الجمعة بقاعة الريو بالعاصمة، بحضور مجموعة من الحقوقيين والنقابيين والصحفيين والناشطين في المجتمع المدني، من ضمنهم المحامية والحقوقية راضية النصرواي التي استماتت في الدفاع عن سجناء الحوض المنجمي. كما كان من بين الحاضرين عدة شخصيات سياسية من بينهم أمين عام حزب العمال حمة الهمامي وأمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي ووزير الشؤون الاجتماعية الأسبق خليل زاوية ووزير الشؤون الاجتماعية الحالي الحالي مالك الزاهي.
ينطلق الفيلم بمقتطفات لنشرات إخبارية على التلفزة التونسية تتحدّث عن أعمال شغب ونهب للممتلكات العامة والخاصة وتدخّل قوات البوليس لفرض الأمن وحماية المنشآت والأملاك، وفي المقابل يعرض الفيلم صورا للاحتجاجات السلمية المطالبة بالتشغيل التي نقلتها وسائل إعلام أجنبية لا سيّما الفرنسية منها، وكأنّ المخرج أراد إبراز حجم التضليل الإعلامي الذي مارسه النظام آنذاك ليخفي آلته القمعية في إخماد تلك التحركات.
ويروي الأهالي والمعتقلون السابقون والناشطون، ممّن استعرضوا شهاداتهم في الفيلم، أن الاحتجاجات بدأت سلمية يوم 5 جانفي سنة 2008 واستمرّت على هذا النحو إلى حدود شهر جوان من السنة نفسها. وقد خرج الشباب هاتفين مطالبين بالتشغيل وبالعدالة الاجتماعية. وقد أشعل فتيل الاحتجاجات وفاة الشاب هشام العلايمي صعقا بالكهرباء، وهو أول ضحايا الحوض المنجمي، إذ تشير إفادة الشهود إلى أنّ معتمد المنطقة طالب بإرجاع التيار الكهربائي قائلا: « رجّع الضو خلّي يموت كي الكلب »، ليفرّ بعدها تحت حماية قوات الأمن التي أمطرت المدينة بقنابل الغاز المسيل للدموع.
وتفيد الشهادات المضمّنة في الفيلم لعدد من النقابيين أنّ الاتحاد المحلّي للشغل بالرديّف تبنّى مطالب المحتجّين وتولّى تأطير التحرّكات الاحتجاجية، مما دفع بالاتحاد الجهوي للشغل بقفصة إلى مراسلة المركزية النقابية طالبا سحب عضوية بعض النقابيين المحليين المشاركين في الاحتجاجات على غرار عدنان الحاجي، وهو ما خلق حالة من الانقسام داخل المركزية النقابية بين مؤيّد ورافض، ليستقرّ رأي أغلبية النقابيين على الدفاع عن المعتقلين بعد أن تبنّت بعض المكاتب الجهوية للاتحاد مطالب المحتجين في الرديف على غرار الاتحاد الجهوي للشغل ببن عروس وكذلك بجندوبة.
وتُبرز إفادة الشهود أيضا أنّ محاكمات المحتجين كانت جائرة جدّا ولُفّقت لهم قضايا تكوين وفاق والتآمر على أمن البلاد، رغم حالات التعذيب الجسدي والنفسي المسلّطة عليهم. وتطوّع للدفاع عنهم عشرات المحامين من قفصة وتونس وصفاقس وسوسة ومدنين. وقد رافقت هذه المحاكمات الجائرة سعي عدد من الحقوقيين التونسيين في المهجر إلى تدويل القضية وكسب تعاطف النقابات الدولية خاصة في فرنسا والجزائر والمغرب، فحظي سجناء الحوض المنجمي بتعاطف كبير أيضا من الأحزاب اليسارية والاشتراكية الفرنسية ومن دعم المنظمات الحقوقية الدولية التي عملت على التعريف بالقضية في الإعلام الدولي.
واستقى الفيلم شهادات كلّا من النقابي عدنان الحاجي (أصيل الرديف) والمحامي والحقوقي رضا الرداوي وحمادي بن عثمان ومحجوب المبروكي ومحمد المسلمي (نقابي) وحسين العباسي (الأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل) وقاسم عفية (نقابي) وعبد الرحمان الهذيلي (حقوقي ورئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية) وسعيدة قراش وأحلام بلحاج وخديجة الشريف (الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات) ومختار الطريفي (محامي وحقوقي) وكمال جندوبي وراضية نصراوي وسهير بلحسن ومحي الدين شربيب، فضلا عن الناشطين في منظمات عمالية وحقوقية فرنسية ومغربية.
وكان عرض الفيلم مسبوقا بتولّي رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبد الرحمان الهذيلي تكريم المحامية والحقوقية راضية نصراوي والمحامي الفقيد عمر صفراوي والفقيد حسين المبروكي والناشط الحقوقي « أنطونيو مانغديلا » والصحفي ماهر عبد الرحمان الذي ساهم في إنتاج هذا العمل، إلى جانب عدد من أفراد عائلات شهداء أحداث الحوص المنجمي.
يقول عبد الرحمان الهذيلي في تصريح لوكالة تونس افريقيا للأنباء (وات) إن منطقة الحوض المنجمي كانت محطّة مهمة ومنعرجا في تاريخ الحركات الاجتماعية، مضيفا أن « هذا الفيلم يوثق لهذه المرحلة ويذكّر أيضا بطبيعة المطالب المطروحة اليوم، ويربط بين الأحداث التي عرفتها تونس في فترة حكم بن علي والأحداث التي عرفتها تونس بعد 10 سنوات من اندلاع الثورة حيث ظلت عديد القضايا مطروحة إلى اليوم ».
وأفاد أن الشروع في إنجاز الفيلم بدأّ في شهر جانفي من العام الماضي، بعد الحصول على فيديوهات حية للأحداث التي عرفها الحوض المنجمي، مؤكدا أن هذا الفيلم هو أيضا تكريم للضحايا ولعائلاتهم وللمناضلين والحقوقيين.
ويجدر التذكير بأن انتفاضة الحوض المنجمي (الرديف والمتلوي وأم العرايس والمظيلة بولاية قفصة) اندلعت يوم 5 جانفي 2008 وتواصلت على مدى ستة أشهر. وتمّت مجابهتها من قبل نظام بن علي بالقمع الشديد مما أدى إلى سقوط ثلاثة شهداء هم هشام العلايمي وحفناوي المغزاوي وعبد الخالق عميدي، فضلا عن جرح العشرات وإيقاف حوالي 700 شخص تعرض معظمهم للاعتداءات والتعذيب في السجون بحسب تقارير منظمات حقوقية وطنية ودولية.